ما أسهل أن يوصف أحد الطغاة بالجنون، ما أكثر أن نتعجب من تمادي سفاح في القتل المضطرد فنصفه بالجنون، هذا نوع من الجهل بماهية الجنون وغائيته، فضلاً عن أنه نوع من تبرير القهر والقتل باعتبار أنه إذا صح أنه قد ارتكب جريمته حالة كونه مجنوناً فهو غير مسؤول غالباً، كذلك الطاغي القاهر الظالم إذا نعتناه بالجنون فنحن نرحمه بهذا الوصف الذي لا يستحقه. هذا الوصف بالجنون هو تبرير أكثر منه تفسيراً، فضلاً عما به من إهانة للمريض النفسي. المجرم مجرم، والقاهر طاغ دموي، والسفاح قاتل أثيم، لا أكثر ولا أقل!.
أغلب الإحصاءات تقول إن نسبة عدد الجرائم التي يرتكبها المرضى العقليون ليس أكثر من نسبة عدد الجرائم التي يرتكبها العاديون، قد تكون نوع جرائم المجانين أكثر غرابة، لكن هذا لا يبرر أن تكون غرابة الجريمة في ذاتها ذريعة لاعتبار أنها من فعل مجنون. الجاري على مستوى العالم حالياً فيما يسمى "الإرهاب"، وآخر حلقاته مجزرة شرم الشيخ، هو ظاهرة أصبحت غامضة لدرجة الربكة مما أدى إلى أخطاء فادحة في تفسيرها، وحيرة بالغة إزاء فهمها (انظر ركن التعتعة السياسية)، النتيجة هي أننا أمام ظاهرة "فوضى سلوكية" أصبحت "مأزقاً وجوديّاً"، وليست كل الفوضى جنوناً.
لا يصح أن نطلق لفظ الجنون على كل ما لا نفهمه، كان أستاذنا أ.د. مصطفى زيور يعلّمنا كيف أن في الجنون عقلاً، وحين ذهب كارل باسبرر (الطبيب النفسي الذي أصبح فيلسوفاً) إلى القول بتشخيص الفصام إذا ما عجزنا عن فهم غائية أعراض المرض العقلي، كان يصف مرحلة باكرة من المعرفة في الطب النفسي، تم تجاوزها حالياً. إن الطبيب النفسي الحاذق يستطيع أن يؤلّف بين الأعراض المتناثرة ليفهم ما تقوله احتجاجاً أو ثورة مجهضة، لقد أصبحنا نفهم ما يقوله الفصاميي بأعراضه وكأننا نقوم بنقد "النص البشري" مثلما يفعل الناقد الأدبي الحاذق مع قصيدة النثر.
دعونا نحترم الفوضى والجنون، لنتخاطب معها لتصبح إبداعاً، وفي نفس الوقت دعونا نحمّل المجرم والقاهر والقاتل الرسمي خاصة وهو يقتل بالجملة، نحمّله مسؤولية أفعاله دون أن نكرّم أيّاً من هؤلاء بوصفهم بالجنون، "ليحيا من حى عن بنية، ويهلك من هلك عن بنية".
نشرت في الدستور بتاريخ 3-8-2005
اقرأ أيضا:
تعتعة نفسية: البحث عن الذات أم إثباتها أم تشكيلها؟ / تعتعة نفسية: لا شكر على تسويق دواء جديد!!