وقف خطيباً للجمعة...، وصار يقسم بالله:
أيها الأخوة الكرام، هذا ما حصل معي ولم يَرْوِه لي أحد من الناس...، صعدت في حافلة عامة لنقل الركاب، وإذ بفتاة تجلس في المقعد المقابل لي، قصيرة الثياب بادية البطن...، فنظرت فإذا بها تُعلِّق مصحفاً ذهبياً في رقبتها، فقلت في نفسي: هي مسلمة إذن! فتجرأت وتقدمت إليها بنصيحة لوجه الله علّ الله يكرمها بترك ما هي فيه.
قلت لها: أنت مسلمة يا بنتي؟ قالت: نعم.
قلت: وأبواك أيضاً؟ قالت: نعم.
فقلت: يا بنتي، أيليق بك أن تخرجي بهذه الثياب وأنت مسلمة من أبوين مسلمين، أترضين أن يراك الله هكذا؟ وأخذت أحذرها تارة وأرغبها أخرى علَّ النصيحة تفلح فيها...
وبعد انتهاء كلامي، قالت: أفرغت من كلامك؟ قلت: نعم. فتناولَتْ هاتفها المحمول وتقدمت به إليّ وقالت: تفضل تكلم! قلت مع من؟ قالت: اتصل بالله، واشكُني إليه!!!
فصعقت لوقع هذه الكلمات: وصرت أقول: أستغفر الله... أستغفر الله..، ولم أستطع البقاء في الحافلة، فناديت السائق: من فضلك أنزلني هنا! ونزلت من فوري..
وبعد أيام، كنت أسير في الشارع، وإذ بسائق لحافلة يناديني: يا أستاذ تفضل واركب معي. فقلت: لا أريد أن أذهب حيث تذهب! فقال: اركب أرجوك، أريدك في أمر هام.
فسميت الله تعالى وصعدت الحافلة، فقال السائق: أتذكر يا أستاذ تلك الفتاة التي نصحتها، فأعطتك الهاتف المحمول في آخر نصيحتك؟
قلت: نعم هداها الله!
قال: ما هداها الله؟ لقد ماتت الفتاة!!
قلت: كيف؟
قال يا سيدي، فور نزولك من الحافلة وقع الهاتف من يدها، فشاهده الراكب الذي كان يجلس خلفك، فناداها يا بنيتي، انظري هاتفك، لكنها لم ترد، فأعاد عليها، ولكنها لم تؤت بحركة ولم تنطق بكلمة. فنظر الرجل إليها ثم صرخ: قف عندك الفتاة ماتت.
فرعبت وطلبت من بعض الركاب البقاء معي ليشهدوا بالحقيقة، وفتحنا محفظتها فعرفنا عنوان أهلها، وذهبنا إليهم، وبعد استدعاء الشرطة والفحص الطبي تبيّن أنها أصيبت بسكتة قلبية!
قلت: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! أوَ حقاً ما تقول؟؟
قال: تعال معي.
وأدار الحافلة وأوقفني قرب دار الفتاة حيث أُلصقت ورقة النَّعي، ((المرحومة بإذن الله تعالى: الشابة فلانة بنت فلان الفلاني..)).
قلت: أتدري؟ عندما قالت لي ما قالت، لم أتمالك نفسي وشكوتها لله كما طلبت... لا حول ولا قوة إلا بالله!!!
وضجَّ الحضور في المسجد بالبكاء...
هكذا أخبرتني الطبيبة صديقة والدتي بما رواه لها سائقها الخاص، وكان حاضراً في ذلك المسجد حين الخطبة، ولقد أعاد القصة ثلاث مرات وفي كل مرة كان يجهش بالبكاء...
كيف ستواجهين الله أيتها المسكينة؟؟
ماذا ستجيبين؟
لقد أضعت فرصة للتوبة منحها الله لك قبل أن يُنْهي حياتك بلحظات!!!
لو استجبت وندمت لكنتِ من الناجين وللقيت الله عز وجل وما عليك خطيئة...، ولكنك...
فهل لديك عذر تقدمينه إن وقفت بين يديه؟؟
سمعت هذه القصة بعد يومين من قراءتي لمشكلة الفتاة السورية، التي بعنوان: (إذا صفعني تركته يقبلني: هكذا أنا) وكانت هذه المشكلة قد أثرت في جداً، أولاً: لأنها من بلدي مما جعلني أتخيل الأمر وكأنه أمامي...، وأتخيل الجانب المستور الذي يكمل به الفيلم الذي يبدأ في الشارع! وثانياً: لأني شعرت أنها كقريبة غالية لي أو كواحدة من أهل بيتي، (والعياذ بالله)، وجعلت أحبس الدمع في عيني وأخاطبها في نفسي:
(لا أدري! أأبكي من أجلك يا بنتي ومن أجل أمثالك من الأجيال الضائعة؟ أم أذهب فأتقيّأ من الجرأة التي كتبتِ بها مشكلتك دون أي شعور بالذنب أو الخطأ؟....، أين كان أهلك يا ترى عندما عُدتِ إلى البيت وأَثَرُ الصّفْعة على وجهك، وقد بقيَتْ ثلاثة من الأيام؟؟)
وبدأت الصور تتوارد إلى ذهني...، صور الفتيات والشبان، بثياب المدرسة بعد انتهاء الدوام، يقفون مع بعضهم في الشارع، و...الخ!
أتذكر الحزن العميق الذي ينتابني حينها أسفاً على هؤلاء، لم أنتم في هذا العذاب؟؟ ليتكم تخرجون من هذا المستنقع وتذوقون طعم رحيق الطهر والعفاف..
صدقوني...إني لكم لمن الناصحين!
ولكن؟ ما الذي سيحصل إن ذهبت لأكلمهم؟ أخاف على سمعتي من الكلام الذي سيرمونني به، وأخاف أن يُظنّ بي شيء آخر...
وأعود لأحلم: أنا الآن عمري 90 سنة!! قد انحنى ظهري، أتوكأ على عكاز لأقدر على المشي! شاهدت شاباً وفتاة!!! حينها لن أخشى إن نصحتهم أن يُظن بي السوء! أتخيل نفسي وقد تقدمت إليهما ورفعت عكازي باتجاههما وقلت بصوتي المرتجف: عيب يا أولادي، خافوا الله، أنتم تجنون على أنفسكم!
وهنا أعود لأرض الواقع وأكمل أسفي وأكتم حزني، وأترنم ببيتين من قصيدة للشاعر سليم عبد القادر:
سالكاً درب الهـــداية فالهدى للحُرِّ رايــــة
إن طعم الطهر أحلى من ملذّات الغواية!!
تتغرغر الدموع في عيني...
ليتكم تدرون...
ليتكم تدرون....
واقرأ أيضاً:
خرافة العصر الحديث / غزة / الجاهل الأخير!!