هل يمكن أن يستمر أحدنا بعد الذي حدث ويحدث، وهو يفكر بنفس الطريقة في أمور شخصه وأسرته ومهنته ووطنه؟ الطبيب النفسي بالذات لا يعالج مرضاه بما يعرف ويقرأ ويحفظ ويطبق فقط، وإنما هو يعالج مرضاه "بما هو". يتم هذا سواء كان يقصده أو لا يقصده، سواء كتب عقاراً أم أعطى حقنة أم قال كلمة أم صمت. لا ينبغي أن يكتفي الطبيب النفسي في مثل هذه الظروف بأن يفتي بجنون هذا المنتحر أو اغتراب ذلك المحرض، لا ينبغي أن يقتصر دور الطبيب النفسي على مواساة الجرحى ورعاية أهل المفجوعين من فقد ذويهم، وفي نفس الوقت لا ينبغي أن يتعدّى الطبيب النفسي حدوده ليتدخل في السياسة بشكل مباشر تحت عنوان الطب النفسي السياسي وما شابه. إذن ماذا؟.
أحسب أن مسؤولية استمرار الحياة، أيّاً كان موقعك الشخصي أو المهني منها، يحتاج وقفة مراجعة شخصية مع كل حدث جلل مثلما الحال الآن. علاقة الإرهاب بالمفاهيم المغتربة، والجزئية، والتسكينية، والتخديرية، التي تروجها شركات الدواء للأطباء النفسيين، ومن ثم يروجونها للناس، هي علاقة لا تخفى على أي ممارس أمين، خاصة في بلد فقير مثلنا، فإذا أضفنا إلى ذلك ما ثبت من دور هذه الشركات (مع شركات السلاح وغيرها) في تمويل الظالمين الذين يفرّخون الإرهابين بظلمهم كل يوم أكثر فأكثر، اتضح ما أريد توصيله لنفسي وزملائي من خلال هذه التعتعة.
ليسأل كل منا نفسه وهو يحمل طبقه ليجمع فيه ما تيسر من الـبوفيه المفتوح في مؤتمر ما في منتجع ما: ما علاقة ذلك بالعلم الحقيقي، ثم بترويج مفهوم اختزالي للحياة، والرفاهية، والدعة، والبلاهة؟ هؤلاء الشباب المفجر نفسه في الأبرياء هو الناتج الطبيعي لانفصال الإنسان عن أصله، عن كونه، عن جمال وجوده، عن الحق سبحانه وتعالى. كل من يساهم في هذا الفصل بتفسير اختزالي لنص إلهي جميل، أو بترويج علم زائف من أجل مكسب زائل، هو مساهم بشكل ما في إفراز تلك النيازك المتفجرة تحصد الأبرياء كيفما اتفق. أنا لست ضد أي دواء يخفف الألم ويزيل الإعاقة، لكن أغلب شركات الدواء قد نسيت هذه المهمة المقدسة، لتشارك في تزييف العلم، وتمويل الظلم، وتشويه الوعي، ومن ثم فصل البني آدم عن الكون، ومن ثم هذه النيازك، فهذه الضحايا، فهذه الدماء.
أعرف كل الردود الجاهزة، وأعرف أنه لا جدوى من حل فردي، لكن الله سيحاسبنا واحداً واحداً برغم تلك الردود التبريرية، حتى لو نشرت في أشهر المجلات العلمية.
"بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره".
نشرت في الدستور بتاريخ 10-8-2005
اقرأ أيضا:
تعتعة نفسية: البحث عن الذات أم إثباتها أم تشكيلها؟ / تعتعة نفسية: لا شكر على تسويق دواء جديد!! / ثقوب وخوابير