قذفت لنا بالمعطفين بين زخات مطر شتائي بارد كان ينساب خارج زجاج الحافلة وهي تتحرك ببطء مخلفة وراءها أمي.. القلق يصرخ في عينيها الملتاعتين وكأن الحافلة تنتزع منها كبدها بل روحها وتمضي بغير رجعة؟! بينما أجلس بجوار أخت تكبرني بثلاثة أعوام وقد خنقتني الدموع بقبضة من حديد.. شاعرة بحزن أمي وقلقها، لا أريد مفارقتها، لا أريدها أن تبكي.. فقدت الرحلة معناها وبهجتها لم أعد أستطيع أن أفرح.. حزن أمي يطوقني والقلق يغتال براءتي.. لم تستطع أمي أن تعلمني أية طقوس للفرح، بل كانت دائماً بكل الخوف والقلق والحزن "تحبني".. وكم علمني حبها أن أحزن!!
كانت رحلتنا المدرسية تتوجه إلى القناطر الخيرية، لا أذكر كم عام مر على هذه الرحلة، لكنني كنت في المرحلة الابتدائية وكذلك أختي وهذا يعني أنني كنت دون الثامنة من عمري.. وصلنا إلى منطقة الحدائق، وكانت أختي تجري وتمرح لاهية مع صديقاتها بينما أشاهدها أنا من بعيد عازفة عن اللعب، فعقلي وقلبي كانا حيث فارقت أمي، ومشهدها لا يفارق مخيلتي وهي تصر على العودة إلى المنزل لجلب معاطف لنا حين شعرت بالطقس بارداً وشاتياً.
تحركت أختي نحوي وأخذتني من يدي تجرني باتجاه صديقاتها كي ألعب معهن، كنت أقاومها بضعف فأنا غير راغبة في اللعب لكنها لم تكن تأبه لي فقد كانت تريد مني أن ألعب معهن كي لا أظل وحيدة طوال الرحلة.. وشعرت فجأة بوخزة شديدة في سبابة يدي اليمنى وأشتد الألم مع جذب أختي وعدوها فقد علق السلك الشائك بأصبعي فصرخت بألم لتنتبه وتكف عن جذبي.. جرى بضعة شباب نحونا بسرعة وخلص أحدهم أصبعي من السلك الشائك ولكنه لم يستطع تخليصه من الألم الشديد فظللت أبكي والدم يتقاطر من أصبعي. أسرعت إحدى المعلمات بلف يدي بقطعة قماش، لا أذكر أية استعدادات طبية ولا حقيبة إسعافات أولية، حاولت أن أكف عن البكاء وأعطتني معلمة أخرى سندوتش وطلبت مني أن آكله لتعويض الدم الذي نزفته!!
حين أذكر ذلك ينتابني التعجب من مستوى وعي المعلمات الفاضلات حينها، ومستوى الاستعداد الذي يمكن أن تكون عليه رحلة مدرسية للأطفال، فقد كان الجرح غائراً ويحتاج إلى تدخل طبي.. ما زال أثره غائراً في أصبعي حتى اليوم وسيظل يصاحبني ما دمت حية.
تأخرت الحافلة عن موعد عودتنا حتى خيم الظلام، لا أذكر التفاصيل أو الأسباب وإنما كل ما أذكره هو وجه أمي الملتاع وهي تقف في المطر تنتظرنا أمام بوابة المدرسة، وأنها استقبلتنا بجمل تعبر عن الخوف والقلق اللذين سيطرا عليها طوال فترة غيابنا وأنها كادت تموت من الخوف والقلق علينا.. كانت هذه النهاية كافية لمحو أي أثر للسعادة إن غافلت قلبي متسللة.
أعود من رحلة غوصٍ عميقٍ داخل نفسي وفي يدي بعضاً من شظايا البلور المكسور.. وأنا أتأمل المشهد الأخير من فيلم "الحفيد"، حفلة سبوع الطفل الوليد، الشموع بيد الأطفال، الجدة ترتدي ثوباً أنيقاً وتهتم بمظهرها وابتسامتها العريضة تشع بهجة وسروراً على الأجيال التالية، الجد يشعر بسعادة حقيقية وهو يحمل "أصغر واحد في العيلة"، الجميع في بهجة، والموسيقى تضفي أجواء من السعادة والمرح، وتبدأ الصغيرة هالة في الرقص ابتهاجاً بـ"النونو"، الكل يضحك ويغني ويدور.. إنها صناعة الفرح.
نعم.. الفرح صناعة، كما أن الحزن صناعة.. البعض يجيد هذا ويورثه أبناءه وأحفاده.. والبعض يجيد ذاك ويورثه أبناءه وأحفاده.
ترى من تسبب في كل ما حدث؟؟ مشاعر أمي جلبت الأحداث التعسة، أم أن الأحداث التعيسة هي التي سببت لها ولنا مشاعر الحزن؟؟.. لا أدري لعله قانون الجذب!!
ترى ما سر السعادة والحزن؟؟
هل السر يكمن في استجابتنا للأحداث.. مقاومتنا.. إصرارنا.. استعدادنا.. رغبتنا في أن نحيا حياة طيبة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
يؤكد ستيفن كوفي في كتابه الشهير "العادات السبع للأشخاص الأكثر فاعلية" أن ما بين المنبه والاستجابة توجد مساحة واسعة تمثل قدرتنا على اختيار الاستجابة الملائمة للمواقف والأحداث، وأن عوامل أربعة تساعدنا على توجيه تلك الاستجابة لصالحنا -إن شئنا ذلك بالطبع- وهي إدراك الذات والضمير والخيال والإرادة المستقلة.. لا شك أن طفلة في مثل عمري حينها لم تكن قادرة على المقاومة ولم يكن لديها وعي بتلك العوامل الأربعة.. ولا شك أيضاً أن كثيرين تخطوا مرحلة الطفولة وربما وصلوا إلى الكهولة بل والشيخوخة ولم يدركوا أيضاً قدراتهم الكامنة ما بين المنبه والاستجابة.. أما وإني قد أدركت، فماذا أنا فاعلة؟
إن الذكريات الأليمة "منبه" وتعليق مشاعر الحزن على شماعة أمي "استجابة".. ولكني لن أرضاها مجدداً، ينبغي أن أختار استجابة أفضل، فلدي ما يكفي من إدراك الذات والخيال والإرادة المستقلة والضمير.. وإن شئت حقيقة أن أصنع الفرح لنفسي ولمن أحبهم فينبغي أن أتخلص من آثار تلك الذكريات..
أما مفتاح السعادة الحقيقية فوجدته في قول الله تبارك وتعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبه ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).. الإيمان والعمل الصالح مرادفات لقناعة الفقير وجود الغني ورضا المريض وحمد المعافى وعفو القادر وصبر المحتسب.. وجميعها وغيرها استجابات تسبب التوازن النفسي وتدلل عليه، واختيار ذلك النوع من الاستجابات هو الذي يُشعر المرء بالسعادة الحقيقية أياً كانت ظروفه ومعاناته.. وأياًً كان ماضيه أو حاضره، فعند حدوث "المنبه" يدفع الإيمان بإدراك الذات والضمير والقدرة على الخيال والإرادة المستقلة إلى الاستجابة الصالحة أو العمل الصالح.. ربما لم يكن ستيفن كوفي يقصد ذلك كما فهمته، ولا حتى خطر هذا التفسير على قلب فيكتور فرانكل مكتشف نظرية (ما بين المنبه والاستجابة) وقد كان عالماً نفسياً من اليهود الذين اعتقلهم النازي.. ولكنني أقصده وأرى فيه ربط جيد بين ما أفهمه من معنى الآية الكريمة وما أقرأه في كتب تطوير الذات..
واقرأ أيضاً:
مدونات مجانين: أنا والمجانين.. ما بيصير!!! / مدونات مجانين خيال ظل!! / الفارس الأول