السؤال هو "كيف تعمل" وليس "ماذا تعمل؟"، هذه العقاقير الساحرة الخطيرة، وهو سؤال ينبغي أن يشاركنا العامة، وخاصة المرضى وأهلهم، في الإجابة عليه، أو بتعبير أدق: في العجز عن الإجابة عليه.
عندما كنت ممتحناً جداً (فقد اعتذرت عن كل أنواع الامتحانات برغم إلحاح زملائي الأفاضل على دعوتي لكل الامتحانات في أغلب الجامعات) كنت أسأل جميع الممتحَـنين، حتى الدكتوراة، هل تعرف بشكل جازم طريقة عمل Mode of action أي من العقاقير التي نستعملها؟، وكانت الإجابة الصحيحة هي النفي التام، لكنه– الممتحّن (بفتح الحاء)، - والحق يقال – يعرف فروضاً كثيرة تحاول أن تجيب على السؤال، كما يعرف ملاحظات كثيرة عن أثر هذا العقار في ارتفاع أو انخفاض تلك المادة الكيميائية العصبية في الدم أو البول أو حتى المخ، لكن كل هذا لا يرتقي بفروض كيفية التأثير إلى أن تكون حقيقة علمية، ولا حتى أن تكون نظرية. فتظل العقاقير شديدة الأهمية، رائعة الفاعلية، لكنها تظل مجهولة تماماً فيما يتعلق بالربط بين تأثيرها الجيد جداً والضروري، وبين ما نتصوره من تغيير كيميائي هنا، أو نتيجة معملية هناك.
بكل ذوق، دخل على شاب سمهري رقيق، مندوب شركة يابانية حديثة العهد بمصر، يدعوني للمشاركة في ندوة في أحد الفنادق (خمسة نجوم، أو أكثر) لمناقشة مفعول عقار جديد من نوع كذا، يعالج كيت (وأنا أعالج هذا "الكيت" بعقار آخر رخيص جداً ونافع جداً جداً، منذ خمسين عاماً). راح الشاب يسهب في ذكر طريقة عمل هذه المادة (على الناقل النيوروني كذا... وأيضاً على المادة الفلانية الخ)!! قاطعته بقسوة لا يستحقها سائلاً: "ما ثمنه؟" تردد قليلاً ثم قال ما جعلني أحسبها فاستنتج أن ثمن القرص هو 18 جنيهاً مصرياً، فيتكلّف المريض من 18 إلى 36 جنيهاً يومياً!.
قلت له: "يا بني أخرج إلى صالة الانتظار وشاهد المنتظرين من جرجا وبني مزار وأبو حماد والزاوية الحمراء وعزبة القصيرين، ونحن في عيادة خاصة، وقل لي من وجوههم دون أن تسألهم: من يستطيع دفع هذا المبلغ منهم". ثم أردفت: "حين تنجح شركتك مع غيرها من الشركات العملاقة أن تسحب الأدوية الرخيصة من السوق برشوة كبيرة، وأكون ما زلت حيّاً وقادراً، سوف أعتزل الطب لأني أحب الزراعة والسفر والعوم".
شكراً.
نشرت في الدستور بتاريخ 24 / 8 / 2006
وللحديث بقية>>>>>: تعتعة نفسية: كيف تعمل العقاقير النفسية؟؟2
واقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: تألّم: الصورة تطلع / تعتعة نفسية: الطبيب النفسي والفتوى الإعلامية