"اللهم ألهمنا الحكمة لمعرفة الحق، والقدرة على اختياره، والقوة لفرضه.. آمين"
بهذا الدعاء كان الملك آرثر يفتتح اجتماعات المجلس الأعلى لفرسان المائدة المستديرة بحسب ما ورد في فيلم "الفارس الأول"، وهو من أفلامي المفضلة.. غير أني أشاهده في كل مرة بعيون مختلفة.
وبعيداً عن الأداء الرائع للمثل شين كونري في دور الملك آرثر ملك كاميلوت المدينة الحلم، وجوليا أورمند في دور جينيفر ملكة لايونيس، وريتشارد جير في دور لانسيلوت الفارس الأول؛ فإن الفيلم يستحق وقفة احترام لإبداع الإخراج والتصوير. ولعل أكثر ما أعجبني في هذا الإطار هو مشهد اكتشاف الملك آرثر لخيانة زوجته الشابة وكيف تحولت نظراته الطيبة إلى بركان غضب جسده المخرج حين أظهر الجفنة المتقدة التي تتوسط مائدة الاجتماعات المستديرة في عين الملك اليسرى أثناء انتقال المشهد بالتلاشي إلى قاعة الاجتماعات.
أما أكثر ما لفت انتباهي فهو شخصية لانسيلوت فهو أقرب إلى الجواد الجامح.. ينطلق ولا يلوي على شيء. صورة للفارس الشجاع والبطل الهمام، ولكنه فارس بلا مبادئ، وبطل بلا أهداف.. ولهذا فقد اتخذ إلهه هواه فكان خائن ومخادع يقبل منصب فارس المائدة المستديرة لا لخدمة كاميلوت وإنما ليكون قريباً من الملكة.. وقد استعدت بعض الاحترام له حين قرر الرحيل مغلباً قيمة اكتسبها على هوى سيطر على نفسه.
في الحقيقة لا أهدف من كتابة هذا المقال إلى نقد الرواية أو الإشادة بأداء المخرج والممثلين -رغم جودته- وإنما لأنه لفت انتباهي إلى أمر أحاول شرحه مراراً أثناء تدريسي لمهارات التفكير، وأجد صعوبة في طرح الأمثلة لتوضيحه.. فحين غضب الملك آرثر اتخذ تفكيره منحى غير معتاد بالنسبة لملك اشتهر بإعلاء قيم الحق والعدل والمساواة بين الجميع.. ومن هنا أُخذ!!
حين اكتشف الملك آرثر خيانة زوجته الشابة والفارس لانسيلوت بدأ دافع الانتقام يتحرك في داخله ويتقد بنيران غضبه وبدأ تفكيره يدعم هذا الاتجاه، فقرر محاكمتهما محاكمة علنية بتهمة الخيانة لشرف المملكة، وهذه التهمة عقوبتها الإعدام!! لم يستطع الملك الحكيم أن يفصل بين مشاعره كرجل وقدرته كملك.. وحين حاول أحد فرسانه لفت انتباهه إلى أفضلية معالجة هذا الأمر في خصوصية، دافع عن قراره من منطلق أن من حق الشعب أن يعرف ما يحدث وأن يتأكد أن العدالة تسري على الجميع حتى على القصر الملكي!!
كان هذا مبرراً منطقياً ومتسقاً تماماً مع ما عرف عن الملك آرثر من حكمة وشجاعة في الحق وعدالة في المساواة، ولكنها ليست الحقيقة كما يعرفها ضمير الملك ويقينه القلبي.
فحين بدأت المحاكمة، أسر لانسيلوت للملك آرثر بكلمات كان محتواها أن "الملكة بريئة.. وإن كانت حياتي أو مماتي في مصلحة كاميلوت فافعل بها ما تشاء.. من أخ لأخ أخلص لك في الحياة والممات".. فقد ذكره لانسيلوت بمبادئه التي رسخها وأقام عليها حكمه لكاميلوت، وبدأ الملك يراجع نفسه وهو يطأطأ رأسه مردداً "فليغفر الله لي"!
ها هنا أدرك الملك آرثر أنه وإن استطاع الانفراد بالرأي واستخدام سلطاته في الثأر لنفسه بل والدفاع عن وجهة نظره وتبريرها بصورة منطقية بدا فيها محققاً لمنتهى العدالة ومدافعاً عن الحق والمساواة؛ فإن الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور أحق أن يُخشى وأن يُتقى.. لأنه لا أحد يمكنه أن يخدع الحكيم الخبير.
أما ما يثير استيائي في الواقع وبعيداً عن الدراما وصناعة السينما، فهو أن هذه الحيلة تستخدم بكثرة في حياتنا حتى يصعب اكتشاف الحقيقة من الزيف، ويصعب تبين لون الحق المبين إن بقي بعد ذلك حق ٌ مبين!! فكم من أخ يخدع أخيه وصاحب يخدع صاحبه وامرئ يخدع نفسه.. نعم، نحن نخدع حتى أنفسنا ونأبى أن نكون في شجاعة آرثر وليغفر الله لنا. فأهون على المرء أن يبحث عن مبرر يلون الوقائع ويطمس الحقائق يدافع به عن نفسه، عن أن يبدو في نظر نفسه أو غيره مذنباً وضيعاً.. لماذا لا نعترف بأخطائنا ونستغفر الله تعالى.. أيصعب علينا أن نتمثل صدق كعب بن مالك بعد أن تخلف عن غزوة تبوك: (والله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذا مني حين تخلفت عنك ؟)!!.. لماذا لا نكون أكثر صدقاً مع أنفسنا وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء: 135)
واقتبس من خواطر د. سيد قطب في ظلال القرآن بعضاً مما كتب عن هذه الآية:
(.. وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها، وفي وجه عواطفها، تجاه ذاتها أولاً، وتجاه الوالدين والأقربين ثانياً.. وهي محاولة شاقة.. أشق كثيراً من نطقها باللسان، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل.. إن مزاولتها عملياً شيءٌ آخر غير إدراكها عقلياً.. ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعياً..
(فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ).. والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها.. حب الذات هوى. حب الأهل والأقربين هوى. والعطف على الفقير -في موطن الشهادة والحكم- هوى. وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين -في موطن الشهادة والحكم- هوى.. وأهواء شتى الصنوف والألوان.. كلها مما ينهى الله الذين آمنوا عن التأثر بها، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها..).
أرأيتم أسوأ من تزييف الحقيقة واختلاق الزيف ثم تبريره؟!!
نعم، رأيت.. أن يقترف أحدنا الإثم بوعي كامل تحت تأثير عواطف مسيطرة أو أوهام مضللة أو هوى جامح، ثم لا يجد ما يبرر به ذلك الإثم أمام نفسه أو الآخرين، فيعمد إلى إلقاء الضوء على آخر، للصق التهمة به، ولو كان أقرب ما يكون إليه، والبحث عن كل وسيلة للدفاع عن نفسه ولإثبات أنه لم يقترف هذا الإثم وإنما اقترفه هذا الآخر، وأن كل دوره كان الدفاع عنه بدافع من دعاوى الحب الجارف والحنان الغامر!!!!
وهمٌ مريض.. ما أتعس من يعيشه وما أشقاه.. (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) (النساء: 112)
أما الأعجب من هذا كله أن أحدنا يقرأ هذا الكلام ثم يسقطه على غيره ويظن أنه أبعد ما يكون عن نفسه!! ولو امتلك أحدنا نور البصيرة وقوة الحق وحكمة العدل لنصف الناس من نفسه، فكان بحق فارساً أول لله.. لا عبداً لنفسه وهواه.
واقرأ أيضاً:
مدونات مجانين خيال ظل!! / علمني حبك.. أن أحزن!! / معبر الجوع!!!!