تحكي غزة وتكشفنا جميعا في مرايا النار والدمار، يرتفع الشهداء إلى أعلى عليين، وتظهر عوراتنا حين نوضع على المحك فمن يدرك، ومن يتبين، ومن يرصد، ومن يراجع، ومن يتغير؟!!
مذهولين كالبلهاء لا نعرف أن الكلمة سلاح، والصورة لغم، وأن القوة أنواع ودرجات، وأن القتال في الميدان يدعمه ويكمله بل يستفزه ويحفزه كلام وإعلام وصور ودعم أهلي وأكاديمي ومؤسساتي ظاهر وخفي!!
الفاهمون يندرجون في هذه الساحات جميعا لأنها ساحات جهاد وقتال من كلمة لكلمة، ومن صورة لصورة، ومن بيت لبيت، ومن مؤسسة لمؤسسة، ومن دماغ لدماغ!!
والبلهاء ينظرون إليك كالمغشي عليه من الموت أو العجز، ويذرفون دموع الكمد والحسرة، ويتساءلون: يعني نعمل إيه؟!!
ربنا على الظالم، حسبنا الله ونعم الوكيل!!!
العدو غاشم وفاجر وباطل وغثاء بلا مستقبل إلا في ظل بلاهتنا وجهلنا بالمعارك، وانتظار البعض لفتح باب الجهاد، حجج البليد، خائر القوي، سقيم الوجدان، معلول الفؤاد!!!
والفاجر يعتدي ويكذب... يكذب... يكذب حتى يصدقه الناس، ونحن نلوم الغربيين لأنهم واقعون تحت تأثير إعلام العدو الفاجر في كذبه الفادح والمستمر، فماذا عنا نحن؟!!
أمامي أمثلة لتوضيح ما أرصد وأقصد:
يخرج نتنياهو بعد عدة أيام من العدوان على غزة ليقول أن إسرائيل كلها قلب رجل واحد موحدة خلف قرار العدوان، ويبدأ الجهابذة في إعلامنا وتحليلاتنا في رصد هذا التوحد والإجماع، والحسرة على فرقة العرب رسميا وشعبيا، وهات يا جلد في الذات والناس!!
ولا يتوقف...لا جهبذ يقول ولا جهبذ ينصت ليمحص كلام النتن ياهو لأنه من أول يوم وهناك أصوات تعلو برفض العدوان وتراكمت وتجمعت لتخرج مظاهرة من عشرة آلاف إسرائيلي في قلب تل أبيب!!
وأنا هنا أشير تحديدا إلى أنهم يكذبون ونصدق، يطلقون الشائعة أو الفكرة ونحن نبلع كالبلهاء، بل ونلوم الغربيين حين يتأثرون بالدعاية والكذب!!!
لا إسرائيل على قلب رجل واحد، ولا جبهتها موحدة خلف قيادتها، ولا هي تعتقد أن لها مستقبلا عبر هذه الوحشية، إنما هي قيادات تكذب، وإعلام يحرض القيادات لتندفع إلى حرب لا نتائج لها غير الدمار وقتل الصغار، وعدا ذلك فهي خاسرة خاسرة سياسيا على المدى المتوسط والبعيد، وإعلاميا لو وجدت خصما واعيا، لكن الخصم غالبا مغشي عليه من البلاهة!!
مثال آخر:
أبرزت الصحف الإسرائيلية ما حصل في مباراة الأهلي والإسماعيلي التي بدأت بالوقوف دقيقة حدادا على شهداء غزة ثم دارت رحى المنافسة حتى أحرز الأهلي هدفا فتحول الأستاد إلى ساحة معركة، وكان تصوير وتحليل وعرض الصحف الإسرائيلية يهدف ويقول:
شوفوا... هؤلاء هم المصريون... يكذبون في تعاطفهم مع غزة، بينما هم متعصبون كل لفريقه الكروي، والكرة هي أكبر همهم، ومبلغ علمهم!!
وصحافتنا الوطنية البلهاء نقلت عن الصحافة الإسرائيلية الخبر والتعليق، ولم يطلع علينا هذه المرة أي جهبذ ليشرح لنا، فالجهابذة يمتنعون عند الحاجة، ووقت الشدة!!
ولا خرج علينا أي دارس لعلم النفس أو الطب النفسي أو بديهيات الإعلام، وبخاصة وقت الحروب، ليقول ويشرح أن ما صدر عن الجماهير الكروية هو مجرد تصرف فوضوي تعودوا عليه من ناحية، وهو من ناحية أخرى إزاحة لطاقة العدوان، وهي ظاهرة نفسية معروفة لأصغر دارس، وفيها ينطلق العدوان في الاتجاه المتاح بدلا من أن يتجه في الناحية السليمة أو الاتجاه الصحيح لأن هذا الإتجاه الصحيح مغلق مثل معبر رفح، وبالتالي فإن الجماهير الحزينة فعلا من أجل غزة، الغاضبة فعلا من الصهاينة، حين لا تستطيع التعبير عن هذا الحزن والغضب بشكل إيجابي، فإن عدوانها يمكن أن ينطلق في اتجاه أي مثير أو محفز متاح، وفي حالة المباراة كان هذا المحفز هو هدف الأهلي الذي أيقظ صراعات نفسية نائمة في النفوس لتحل محل الصراع الأهم والأكبر مع الصهاينة وإسرائيل!!
صعبة دي؟! عويصة؟! ملغزة؟! محتاجة فلسفة وتعقيد ودماغ كبيرة لتكتشفها أو تشرحها؟!
ومن الذي يدير إعلامنا وصحافتنا؟! وماذا يفعل لدينا"المتخصصون" في سيكولوجية الإعلام، والحرب النفسية، وعلم النفس وطبها؟!!
هل لهم أصلا وجود؟! أصبحت أشك!!
مثال ثالث:
تقرير منشور على موقع الجزيرة، والجزيرة متهمة بأنها تشعل نار الحرب، وتمارس الدعاية لحماس، وتخوض حربا ضروسا ضد إسرائيل...إلخ
التقرير يقول أن التصريحات صدرت عن محللين صهاينة يتعجبون فيه ضعف رد الفعل الإسلامي على تدمير المساجد في غزة، ويضم التقرير تصريحات من جهات فلسطينية تردد نفس البهتان الصهيوني وتتعجب من برود رد الفعل على انتهاك المساجد!!
وأحتاج لنصف ساعة لأشرح وأفضل لك الألغام التي يحملها التقرير الإسرائيلي الأصلي، وهي لا تخفى على لبيب ما بين مغالطات وأراجيف واستفزاز، ومستوى السذاجة الفادح في تصديق ما قاله الصهاينة ثم البناء عليه في التصريحات الفلسطينية، ولا أظن قارئا سيتوقف أمام التقرير كله بمحتوياته ناقدا أو مكتشفا للألغام المتضمنة فيه، والمغالطات والسذاجة، والنتيجة زيادة في مساحة الحسرة والألم والكمد، والشعور بالعجز، وعدم الرغبة في الانتماء أو استمرار الحماس لهذه الأمة غير القادرة حتى على الاحتجاج على انتهاك مقدساتها ـ على حد تصوير التقرير ـ رغم أن الموضوع كله عبارة عن أغاليط وأراجيف ولعب حواة إعلام سذج لكنه يؤثر فيمن هم أشد سذاجة، وحالتنا صعبة فعلا!!!
مثال رابع:
كنت في إنترنت كافيه، ومدير المكان يستمع إلى إذاعة على الإنترنت تذيع أغاني وتقارير إخبارية من وقت لآخر، ولأن الصوت كان عاليا جدا ألقيت بالسمع لأعرف آخر الأخبار ليلفت نظري أن المعلومات تذاع بشكل انتقائي جدا ومتحيز جدا بشكل فج ضد المقاومة!!
سألته: إذاعة إيه دي؟!
قال: معرفش والله... أنا بسمعها وخلاص(!!!)
قلت له: دي باين مش إذاعة مصرية لأن لهجتهم تبدو شامية أو لبنانية؟!!
قال: نعم... هم جنسيات عربية مختلفة.
شوية وسمعت الإذاعة بتقول: هنا راديو "سوا"... فقلت في نفسي ثم لمدير المكان، وهو طبيب بالمناسبة: يا سيدي هذه إذاعة أمريكية موجهة للمنطقة العربية لتحسين صورة أمريكا منذ احتلال العراق!!
هو لا يعرف من تكون إذاعة "سوا"، ولا هو ينصت جيدا ولا يميز الغث من السمين، والدس من الحياد، ومثله ملايين يبتلعون المواد الإعلامية كما نبتلع حبوب الأسبرين أو ربما حتى دون أن نعرف أي حبوب نبتلع!!!
هل أتكلم عن الإعلام الرسمي المصري أم أن فجوره ظاهر ولا يحتاج إلى بيان؟!
طيب.. لماذا تأثر به العديد من أهلنا، وبعضهم المفروض متعلمين وبيعرفوا يقروا ويكتبوا؟!
هل سأصيبك بالحسرة والحزن إذا شرحت لك كيف تتعامل دولة الصهاينة مع الإعلام عامة، وخاصة في زمن الحرب؟!
وكيف أنه لا كلمة تكتب أو تنشر أو تقال إلا إذا مرت على رقيب عسكري متخصص، وهذا الرقيب متخصص بجد، مش على طريقة الجهابذة بتوعنا!!
هل أنا محتاج إلى تكرار الحديث عن عدوان الإعلام العربي، وحتى الذي يدافع عن المقاومة، على مشاهديه حين يعرض عليهم صور متلاحقة للدمار البشع لحظة بلحظة دون أن يكلف نفسه مشقة الشرح والتحليل لما يمكن أن يكون طريقا أو طرقا للدعم والمشاركة في الجهاد بأنواعه، وهي كثيرة للغاية!!!
هل أنا محتاج لأذكر لك بعض خسائر العدو الصهيوني التي لا يعلن عنها، وتصريح اليوم لموسى أبو مرزوق الموجود بالقاهرة الآن، و"موسى" هو نائب "خالد مشعل"... يقول موسى: إن قتلى الصهاينة بالعشرات داخل غزة، والجرحى بالمئات، ولكن العدو يمارس تعتيما ـ واضح أنه محكم جدا ـ على خسائره، ويمنع وسائل الإعلام من هذه التغطية!!
هم يتحكمون في إذاعة الحقائق، ويذيعون علينا الأكاذيب، ويلقون لنا بالأراجيف والمعلومات الملغومة والأفكار المفخخة، ونحن إعلامنا يبتلع ويردد كالببغاء، بعضه يشتم بعهر وصفاقة، وبعضه يعيد إنتاج أطروحات العدو، والناصح الشاطر الفهلوي الوطني الملتزم يذيع علينا صور الدمار ولا يساعدنا على اكتشاف واستكشاف طرق الدعم والمساندة والمشاركة في هذه الحرب بشقيها العسكري والنفسي!!!
أي عدوان على الذات هذا الذي نمارسه ضد أنفسنا؟!
انتبهوا يا إخوان... وإلى الأمام يا صامدين على الأرض المحروقة... المجد للمقاومة، والنصر للمجاهدين والجنة للشهداء... دماغي يا عالم!!!
واقرأ أيضًا
على باب الله: بدون عنوان/ على باب الله: نحن ضحايانا: الإعلام التعبوي، والعنف المزاح