بوارق أمل تسطع من خلال الدخان
يرى الناس من حولي الدخان والحرائق، والمجازر البشعة في غزة، ويتصلون بي: (هنّأك الله ليس عندك تلفاز ولا ترين ما نرى)! ومن قال هذا؟ ليس عندي تلفاز، ولكن عندي برنامج (سامي سوفت) الذي ابتكره بطل من غزة –لا أدري أحيّ هو الآن أم مع الشهداء-، ويمكن من خلاله رؤية قرابة مئتي قناة فضائية عن طريق الإنترنت، ورغم أن سرعة الإنترنت التي لا تتجاوز 52 كيلوبايت/الثانية لا تتيح لي رؤية أكثر من قناتين إخباريتين أو ثلاثة، ورغم أن الصورة -بسبب السرعة العجيبة- تظهر فائقة الجمال والوضوح، كما أن البرنامج يصيبه (سكتة قلبية) بين الفينة والأخرى بسبب السرعة أيضاً، إلا أنني أرى ما يجري وأتابع ما يحصل، وأرى من خلف هذه الصورة المشوشة القاتمة –حساً ومعنى-، بوارق الأمل تسطع مبشرة بفجر جديد للأمة!
لقد جاءت هذه المجزرة –وليس في قدر الله صدفة- بعد حذاء الزيدي الذي حرك الأمل في ضمائر الأمة، وحررها من يأسها، وأعاد إليها ثقتها بنفسها، وأشعرها أنها تستطيع بحذائها فقط أن تفعل ما لم يفعله أحد! جاءت المجزرة بعد أن صحت مشاعر الكرامة والعزة عند العرب والمسلمين، ترى أيعجزون عن مواجهة هؤلاء الأنذال؟ طبعاً لا!
دخان غزة وحّد مشاعر الأمة فألمها واحد وأملها واحد، وهدفها واحد، ومقصودها واحد، منذ متى ونحن نحلم بهذه الوحدة في عصر الفرقة؟ إنه دخان غزة!!
دخان غزة سلح الأمة بسلاح لا يغلبه سلاح، سلاح التضرع إلى الله والالتجاء الكامل إليه مع اليقين بقدرته، فأبواب المساعدة إذا سدت جميعها في وجه الشعوب، فلن يسد باب الله القادر على كل شيء، وخاصة إذا التجأ إليه الناس بقلب واحد معلنين عجزهم وقلة حيلتهم ومفوضين أمرهم إليه –كما هو الواقع الآن-، وما النصر إلا من عند الله! وإنما طالبنا الله تعالى بإعداد ما نستطيع من قوة، وهذا ما نستطيع، والباقي على الله...، ليس هذا الكلام تعليل للنفس ولا هروباً إلى أحلام الكرامات والخوارق، ولكنها الحقيقة وقانون من خلق السماوات والأرض...
قصة معروفة في دمشق حصلت أيام الاحتلال الفرنسي لسورية، حين حاصرت القوات الفرنسية دمشق وقررت تدميرها وتركها أثراً بعد عَين، حينها لم يكن لهؤلاء الضعفاء أمام الأسلحة الفرنسية إلا الالتجاء إلى قوة ملك الملوك...، اجتمع الناس مع كبار الشيوخ في دمشق، وصاروا يتلون قوله تعالى: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)) [آل عمران:173-174]، وفي صباح اليوم الثاني بدأ الفرنسيون بالقصف المدفعي، فكانت قذائفهم تخرج من فوهات المدافع فتنطلق أمتاراً يسيرة ثم تسقط فتغوص في الوحل والطين!! وبعد محاولات فاشلة عدة، لملمت فرنسا أسلحتها وعدلت عن فكرتها في تدمير المدينة! قصة تبدو ضرباً من الخيال، ولكنها جنود ملك الملوك!
دخان غزة أعاد قضية فلسطين إلى الحياة، وعرّف العالم بأسره على حقيقة إسرائيل...، عند بداية القصف قالت لي فتاة من أمريكا الجنوبية: (قبل أسبوع كان الناس في الغرب يظنون أن المسلمين هم الإرهابيون، واليوم الكل يعرف من الإرهابي!). أستغرب حينما أرى الناس من مختلف الجنسيات والديانات، بل حتى اليهود يخرجون متظاهرين محتجين، ويذكرني هذا، بقصة أصحاب الأخدود حينما قتل الملكُ الفتى الصالح أمام الناس ليتخلص من دعوته إلى الإيمان، فآمن الناس جميعاً من فورهم، وانقلب السحر على الساحر! من كان يتخيل ردة الفعل العالمية هذه، بعد سنوات من التضليل الإعلامي، والتشويه لسيرة العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ إنه دخان غزة!
إنه دخان غزة، ودماء أهلها، الذي ما كان ليضيع عند الله...، في غزوة تبوك تحمل المسلمون المشاق العظام، إذ كانت في الحر الشديد، مع بعد المسافة، وقلة الزاد، فلم يضيّع الله ما بذلوا، ووصل المسلمون إلى تبوك وقد فرق الله جحافل الروم بعد أن ألقى الرعب في قلوبهم، بل قد جاءهم يوحنا حاكم أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، وعاد المسلمون سالمون إلى ديارهم! يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه فقه السيرة تعليقاً على هذه الغزوة: (لقد كان من مقتضى هذا الاهتمام لدى الروم [يعني خوفاً من انتشار الإسلام] أن يكون الاشتباك بينهم وبين المسلمين عظيماً وخطيراً، ولكن حكمة الله عز وجل تشاء أن يكتفي من جهاد المسلمين في هذه الغزوة بذلك الجهد العظيم الذي بذلوه والمشقات الجسيمة التي تحملوها، إذ قطعوا تلك المسافات المضنية بين المدينة وتبوك ذهاباً وإياباً،..... وما الجهاد الذي أمر الله به؟ هل هو إلا بذل النفس والجهد في سبيل شرعة الله ودينه؟
إن هذا كل ما يريده الله من عباده، ومعاذ الله أن يكون بحاجة من وراء ذلك إلى معونتهم لرد كيد الكافرين، أو إدخال معنى الهداية والإيمان في قلوب الجاحدين. لقد بذل جيش العسرة، في هذه الغزوة العسيرة المضنية، المال والجهد وضحوا بالراحة في أجمل فرصها، واستبدلوا به العذاب في أقسى صوره وأشكاله، ولقد برهنوا بذلك على صدق إيمانهم بالله ومحبتهم له، فحق لهم النصر والتأييد، وأن يكفيهم الله القتال، برعب من لدنه يقذفه في قلوب أعدائهم، فيتفرقون عنهم ويخضعون لحكم الله فيهم). بسبب دخان غزة، ودماء أهلها التي ضحوا بها صموداً وتمسكاً بالدين والأرض، بسبب هذه الدماء، أكرم الله الأمة فوحد مشاعرها، وأيقظ ضمائرها، وأظهر حقيقتها عند شعوب العالم...
فهلا أعنّا إخواننا في غزة -بل والأمة جميعها- على النصر وقهر الأعداء؟
هلا أعناهم ببرهنتنا على إيماننا وحبنا لله، بالدعم المادي والمعنوي؟
هلا أعناهم بجهاد الشهوات وتحمل المشاق في سبيل ذلك؟
هلا أعناهم بالتوبة إلى الله، والرجوع إلى الإسلام والتمسك به بواجباته، وآدابه؟
هلا أعناهم بركعات نقف فيها في الليل بين يدي الله عز وجل؟
هلا أعناهم بحبنا لبعضنا وترك الشحناء والخلافات فيما بيننا؟
هلا أعناهم بترك المال الحرام والرشاوى والربا، والزنا؟
هلا أعناهم بتفقد الفقراء والإحسان إلى الناس؟
هلا... وهلا... وهلا... مهام كثيرة صعبة لكنها أيسر بكثير مما يلاقيه إخواننا في غزة، فهل نبخل بتقديمها برهاناً على الإيمان –ليكرمنا الله بالنصر- وقد قدم إخواننا الدماء؟!
أظننا سنبذل، وسنحقق النصر الذي بشرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ. إِلاَّ الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ)).....
ويتبع>>>>> : كلنا غزة....!!!
اقرأ أيضاً: