أول مرة أجلس ليلاً وأفكر بغير نفسي وحالي وأموري والعمل والناس والحبيب..
أول مرة أجلس بمنتصف الليل على ضوء القمر الخافت وأتخيل المشهد تخيّلاً تفصيلياً وأبكي وأبكي وأشهق من البكاء..
أبكي مما سمعت.. أبكي مما شاهدت.. قال: "دخلوا بيتي، دمروا حياتي، قتلوا ابني، اغتصبوا امرأتي.."
كلمات سمعتها وتتردد على مسامعي كل صباح ومساء، بل وكل دقيقة..
كلمات قليلة لكن تأثيرها كان كبيراً جداً في نفسي..
قالت: نفسي أعود للبيت..
أي بيت هذا والدمار قد حلّ عليه..
بل أي أرض تلك والوحوش دنستها.. مشاهد دمار، كل دقيقة مشهد.. الطفل البريء شبه العاري لا ينسى.. مشهد الطفل المحمول وقد كتب على ظهره كلمة واحدة لكنها تذرف دموعاً غزيرة: كلمة "مجهول" حمل ولم يعرف هذا الطفل الشهيد من أبويه؟ من أهله؟ أهم على قيد الحياة ليتسلموه جثة هامدة أم سبقوه للشهادة والجنة؟
من ينقذ أهل غزة؟ من يمسح جراحهم؟ من يطفئ دموعهم؟
من يشد أزرهم؟ من يوقف العدوان؟ من يوقف الرصاصة؟
من يوقف الدبابة؟ من ومن؟
غزة كئيبة.. غزة تعيسة.. من لها؟ من يعيد لها مجدها وعزها؟
حزينة كلماتي.. كئيبة أشعاري.. غزيرة أدمعي..
من يوقف العدوان؟ من يعيد الأمان لغزة؟ من يسمع الأطفال؟ من يمسح دموعهم؟ من يضحك وجوههم؟ من يرسم الابتسامة على وجناتهم؟ من ومن؟
حزينة أنا عليهم، لكن حجارة غزة أحزن..
كئيبة أنا مما أشاهد وأسمع، لكن أحياء غزة تفوق كآبتي..
غزة في الحصار وأيّما حصار..
من يسمع حناجر الصغار وهي تصرخ..
من يسمع البكاء والنحيب..
غزة في الحصار، غزة في الحصار..
من عيون غزة، وعيون الصغار والكبار نقرأ السؤال..
ويوثق الحصار، ويوثق الحصار..
ويصرخ الإنسان، ويصرخ البشر، ماذا جرى للأشرار؟
ماذا يحصل؟
بماذا أجيب؟ ماذا أقول؟
تراني أجلس في القصور..
أنحت في الصخور..
أسير في الشوارع..
أصرخ في المآذن..
أتهلل في الجوامع..
أسبح في البحار..
أتسابق مع الأسماك..
أغرد مع العصافير..
واركض مع المتسابقين ..
وأنظر في العيون..
وأسمع في الآذان..
وأقول ليت الصبح لأهل غزة يعود..
ليت الليل يبتسم لهم..
ليت القمر يغني لمسامعهم..
ليت الغيوم تنقشع والحصار يزول..
ليت وليت...
أجلس مع نفسي وأتساءل؟
أمات كل الصالحين.. أمات كل العابدين.. أمات كل الراكعين..؟
أمات اليوم في ديارنا عمر بن الخطاب..؟
فعلاّ قد مات كل طيب.. قد مات كل صالح..
قد مات في ديارنا عمر.. لا بصيص من عمر، ولا شعاع من عمر، ولا عمر ولا عمر..
فعلاً يا غزة غدوت كياني كله، أفكر فيك صبح مساء، أتخيّلك، أدعو لك كل صلاة، أفكر بأهلك، بأطفالك...
مرّ عليّ من يومين مشهد أراح قلبي بعد القلق الخوف على أهل غزة..
فبعد انشغال بالي على شخص قد لا أعرفه وجهاً لوجه، ولكن تقاربت أرواحنا على العلم والمعرفة.. أستاذ قدير في جامعة غزة قسم علم النفس، كان سنداً لي ومساعداً ومشجعاً لأخطو أول خطوات العمل كأخصائية نفسية، ولأستزيد من العلوم النفسية والمراجع المفيدة والمهمة التي لم يبخل عليّ بشيء منها..
فبعد خوفي عليه والتفكير في وضعه مع العدو الصهيوني وهل غدا شهيداً أم ماذا؟
أنتظره على المسنجر ولا أجتمع به، أترك له رسائل ولا أجد الرد على الإميل، وقد تعودت سابقاً على كلامه كل فترة فأين هو؟
أهو بخير؟؟
غدا الشيطان يلعب في ذهني إلى أن جاء الفرج، أخيراً برسالة هاتفية منه قال لي حرفياً– مع مراعاة التشكيل والنقاط–:
" من داخل غزة المحروقة؟ وعلى صوت المدافع والصواريخ أبعث تحياتي ونحن بخير صامدون؟ لا تنسونا من الدعاء"
فعلاً كانت رسالة أثلجت صدري وتأكدت كم هم رجالاً أشداء في المصائب..
كانت رسالة جميلة..
ولكن ما حدث بعد يومين أخافني؛ أرسل لي رسالة على البريد الإلكتروني شارحاً لي عن أوضاعهم بغزة والعذاب وصور الدمار والأطفال، وعن بيته الذي تهدم عليه وعلى رؤوس أولاده، ولكن للأسف لم تكتب له الشهادة.. يالله، قال للأسف لم تكتب له الشهادة وقالها وهو حزين أنه لم يمت بعد.. وفي نهاية الرسالة كتب جملة فعلاً أبكتني، قال لي أنه إذا لم يعد يرسل لي رسائل فأقرأ عليه الفاتحة، لأن الله يكون رزقه بالشهادة..
يالله، أبكاني الوصف وما قاله.. فعلاً هم رجال لا يخافون الموت، أقوياء أعزهم الله وأبعد عنهم الذل والخوف..
صحيح كانت رسالة تبكي ولكن النفوس الباكية المتعبة تحيى..
أرجوكم دعونا نكفكف الدموع ونوقظ القلوب ونحي الغافلين، ونصرخ بهم ونقول لهم: غزة أمانة في أعناقنا، دعونا ندعو لها بكل صدق..
حماكم الله يا أهل غزة.. أعزكم الله.. نصركم الله.. قلوبنا معكم ودعاؤنا منا ولكم.. ولن ننساكم ما حيينا..
اقرأ أيضاً:
الفضائيــات العربيــة ونقل أحداث غزة/ نشوف ولا ما نشوفش.../ الصواريخ الفلسطينية... قوة الضعف وضعف القوة/ الأهداف الإسرائيلية من العدوان/ عفواً غزة أنا لست متضامنة معك!!/ في التفاصيل/ يوميات مفرووسة الإمارات العربية المتحدة/ حروب غزة التي بدأت.