الثلاثاء 20 يناير 2009
الرابعة صباحاً.. انطلق من منزلي في سيارة أجرة تقطع الطريق الدائري بنهم لتوصلني إلى نقابة الصحفيين بمنطقة وسط البلد. كان الظلام يخيم على القاهرة التي بدت هادئة ومستكينة، لا يقلق نومها اللذيذ إلا مرور بعض السيارات من حين لآخر، وتحركات حافلات الأمن المركزي المصفحة التي تتمترس كعادتها على مقربة من مبنى النقابة.
انتظرت بفروغ صبر وصول الزملاء الصحفيين وأعضاء مجلس النقابة الذين سيرافقوننا إلى رفح لنقدم هديتنا لإخواننا في قطاع غزة.. أخيراً بدأت الحافلة تتحرك في حوالي الساعة السابعة، القاهرة تتثاءب وميدان التحرير يلقي بغطاء الليل وستره مع إصرار الشمس على غسل ساحته الفسيحة..
طوال الطريق الطويل من القاهرة إلى العريش كنت أحاول أن أجد صيغة مناسبة للاعتذار.. نعم الاعتذار عن وصولنا المتأخر جداً إلى معبر رفح.. إلى الجرحى في مستشفيات مصر.. إلى أهالي الشهداء في غزة.. كنت أود في قرارة نفسي ألا أشعر بالحرج الشديد، فها نحن وفد محترم من نقابة الصحفيين يضم أعضاء محترمين من مجلس النقابة مثل الأستاذ محمد عبد القدوس، والأستاذة عبير سعدي والأستاذ صلاح عبد المقصود والأستاذ يحيى قلاش والأستاذ عبد المحسن سلامة وعدد لا بأس به من الصحفيين من مختلف الجرائد والمجلات بالإضافة إلى الأستاذ عماد مسئول العلاقات العامة بالنقابة ومراسلين قناة الساعة الفضائية.. ها نحن وفد محترم جداً تنتظرنا أربعة حافلات ضخمة في استاد العريش محملة بالأدوية والمواد الغذائية، مقدمة هدية من النقابة باسم صحفيي مصر المحروسة، دعماً لصمود أهل غزة في مواجهة ((ما بعد العدوان))، وكذلك 30 بطانية و30 ألف جنيه لتوزيعها على 30 جريح من الذين استقبلتهم مستشفى العريش العام.. وكما قالت أستاذة عبير سعدي التي أقدرها وأعتز بها جداً: "أن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً" وأنا أوافقها الرأي من حيث المبدأ، وإن كان هذا الأمر يشير إلى نقطة جوهرية تتعلق بتعاملنا مع أحداث غزة كصحفيين وكنقابة وكشعب بشكل عام، تلك النقطة التي أمست تشع وضوحاً ورسوخاً في أعماقي وأنا أقيم ما حدث طوال اليوم أثناء رحلة العودة.
أخيراً وصلنا إلى العريش وكلنا أمل أن تتحقق نبوءة أستاذ صلاح عبد المقصود بالسماح لنا بدخول 4 كيلو متر في عمق غزة لتسليم المساعدات بأنفسنا.. كنا نرجو أن يتحقق لنا ذلك البعض تضامناً والبعض تعاطفاً والبعض رغبة في عمل (شغل صحافة) من موقع الأحداث.
التقينا بالشاحنات الأربعة وبدأ المصورون يلتقطون الصور لوفد النقابة مع الشاحنات، وسجل مراسلو قناة الرسالة الحدث.. وحين هممنا بالتحرك استوقفنا أحد الضباط بحجة أنه ليس لديه أوامر بالسماح لنا بالتوجه إلى معبر رفح.. وبدأت الاحتجاجات والاتصالات وأخبرنا أستاذ صلاح عبد المقصود أن "المخابرات لم يردوا ولكن أمن الدولة رد ووعدوا بالتنسيق".. وظللنا حوالي 90 دقيقة في انتظار اتصال من أمن الدولة لتنسيق تحركنا، ثم جاءت الأوامر بالتحرك نحو معبر رفح الخاضع للسيطرة المصرية- الفلسطينية أو معبر العوجة الواقع تحت سيطرة إسرائيل من جانب فلسطين المحتلة.. طوال الطريق من العريش إلى منطقة (الشيخ زويد) ونحن نشعر بالتوتر والترقب ولا ندري إلى أي اتجاه سيسمحون بعبورنا.. وأخيراً سمحوا لنا بالتوجه إلى معبر رفح وتفائلنا خير وعاد إلينا الأمل بتسليم الشاحنات للفلسطينيين وربما الدخول إلى غزة.. غير أن هذا لم يحدث!!
على معبر رفح فاجئتنا التعليمات: ممنوع مرور المواد الغذئية عبر معبر رفح.. ممنوع مرور البطاطين.. ممنوع مرور مستلزمات المستشفيات كالسولار والمولدات وكل ما يمكن أن يخطر على البال مما تحتاجه غزة وبشدة.. كل شيء ممنوع ما عدا الأدوية!! أما أي شيء آخر فيدخل إلى غزة عن طريق معبر العوجة الذي تسيطر عليه إسرائيل، ومن هناك -إذا عبر- يتم التصرف فيه وفقاً للمشيئة الإسرائيلية!!!!!
حاولنا التفاوض.. الاحتجاج دون فائدة وأخيراً تحدث إلينا سائق تابع للهلال الأحمر الذي تعهد إلينا -بعد حوار طويل- أن يتم تسليم المساعدات الغذائية لمعبر العوجة وأنه سيكتب تعهد بذلك!!
التقينا بالدكتور فريد إسماعيل -عضو مجلس الشعب عن كتلة الإخوان المسلمين- الذي أكد لنا أن المساعدات التي تدخل عبر معبر العوجة لا تصل إلى الفلسطينيين، وأن الوضع هناك أكثر من مأسوي، فالقطاع لم يعد به ما يسد الرمق، وما لم يقضي عليه القصف الإسرائيلي، قُضى عليه بفعل الحصار الظالم، وأن البشر وحتى الحيوانات الضالة في غزة باتت تتضور جوعاً.. انتابني شعور بالغليان، فذلك الذي حبسته في صدري أثنين وعشرين يوماً لم يعد يحتمل أكثر حتى ينفجر كقنبلة موقوتة.. ورحت أدور في الساحة أمام المعبر أتطلع لردود أفعال من حولي.. وجدت الأستاذ محمد عبد القدوس واقفاً فقلت له: "لازم يكون لنا موقف.. نعتصم أمام المعبر حتى يسمحوا بدخول المساعدات".
وجدت أستاذ صلاح عبد المقصود فقلت له: "لازم يكون لنا موقف مش حنسلم الشاحنات لإسرائيل".. كان الجميع مشغولين وأقاويل تترد من هنا وهناك.. البعض مع عدم تسليم المساعدات.. والبعض منفعل مثلي ويود أن نتخذ موقفاً حاسماً.. والبعض مع تسليمها للهلال الأحمر وهم يوصلونها بمعرفتهم.. أقاويل من هنا وهناك يصعب حصرها أو تحديد مصدر كل منها.. ولكن في النهاية وجدت أعضاء مجلس النقابة مع الصحفيين يتوجهون إلى الشاحنات ومعهم سائق الهلال الأحمر لتسليمه الشاحنتين المحملتين بالأغذية!!!
وبعد قليل عادوا وكان أستاذ صلاح عبد المقصود يتحدث عن التظاهر أمام المعبر.. اعترضته قائلة: "أستاذ صلاح أنا عاوزة أعرف إيه هدف المظاهرة دي بالضبط"؟؟
قال: "هدفها أن نحاول إدخال المساعدات عبر معبر رفح".
قلت: "وهل حيسمحولنا بمجرد التظاهر والهتاف؟؟"
قال: "أيوه ممكن يسمحولنا"
لم أقتنع في الحقيقة بما قال فرددت: "إذا حيسمحولنا.. نهتف لبعد بكرة"
في قرارة نفسي شعرت أن مجرد الهتاف والتظاهر غير كافٍ كموقف من صحفيي مصر ونقابتها، ولمحت بعيني مراسلين أجانب يقيمون لليوم الرابع أمام معبر رفح مصرين على السماح لهم بالدخول والتصوير في غزة..
بالفعل بدأنا بترديد الهتافات وانطلقت قلوبنا من حناجرنا "غزة غزة رمز العزة.. افتحوا المعابر.. يا فلسطيني يا فلسطيني دمك دمي ودينك ديني.. أحنا وراك يا فلسطيني......." وتوجهنا إلى بوابة المعبر وراح أستاذ محمد عبد القدوس يحرك البوابة بعنف محاولاً فتحها أو محاولاً تسجيل احتجاج شديد اللهجة لدى من يمنعوننا من الدخول وتسليم المساعدات ونحن جميعاً نهتف "افتحوا المعابر.. افتحوا المعابر.. افتحوا المعابر....." .. والتفتت إلينا أنظار مراسلي الصحف الأجنبية محاولين التقصي والاستفسار عما يحدث..
انتهت المظاهرة بعد حوالي 15 دقيقة من بدايتها.. وبدأ الحديث إلى المراسلين لتغطية الحدث.. ولمحت أستاذ صلاح عبد المقصود يتحدث إلى مراسلة صحفية أمريكية تجيد اللغة العربية.. فقاطعته كمدفع رشاش "إن إغلاق معبر رفح في وجه المعونات الغذائية هو مشاركة في قتل الفلسطينيين، فما الفارق بين الأدوية والغذاء.. كلاهما مهم وأساسي للحياة.. لقد عانى الشعب الفلسطيني سنوات الحصار ثم قُتل تحت القصف.. والحكام العرب يتفرجون ويختلفون ويتفقون ويتفقون ويختلفون على عقد قمة عربية ثم عقدت أربع قمم لا تطال أحدها صمود وشموخ الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.. كل القمم نصت على الوقف الفوري لإطلاق النار وفتح المعابر وإنهاء الحصار.. منع الغذاء عن الفلسطينيين وهم في أمس الحاجة إليه ألا يمثل حصار؟؟ وإغلاق المعبر في وجه المعونة الغذائية لشعب يعاني الجوع ألا يعني أن المعبر مازال مغلقاً؟؟ نريد تفسيراً من الرئيس مبارك لأن ما يحدث على أرض الواقع يناقض ما قاله؟؟ ما معنى أن تمر المواد الغذائية عبر معبر العوجة؟؟ أنعطي الجلاد فرصة لإذلال الضحية؟؟ المعونات التي تدخل عبر العوجة لا تصل إلى الفلسطينيين كما أكد شهود لديهم اتصالات داخل غزة.. فلماذا تشارك مصر في هذه المؤامرة.. نريد تفسيراً من الرئيس مبارك.. لم نعد شعباً يمكن الضحك عليه بقرارات القمم العربية التي لا يتحقق منها شيء...."
نحن بالفعل نريد تفسيراً من الرئيس مبارك لهذه المعضلة: فإن كان معبر رفح تابع للسيادة المصرية فلماذا تمنع سيادتنا الغذاء عن غزة؟؟ وإذا كان خاضعاً لأوامر إسرائيل فقد قيل لنا أن سيناء تحررت منذ 73.. لا توجد أتفاقية واحدة بين مصر وإسرائيل تلزمنا بتجويع الشعب الفلسطيني.. وإن كانت قرارات القمم العربية ملزمة فلماذا لا تلتزم مصر بفتح المعبر للمعونات الغذائية.. هل تحتاج المعونات الغذائية إلى تقديم موقفها من التجنيد كما طُلب من الأطباء الراغبين في العبور للمساعدة في إنقاذ المصابين؟؟ هل تحتاج إلى جواز سفر للمرور لأنها تحمل الجنسية المصرية؟؟ لماذا لا تلتزم مصر بإنهاء الحصار؟؟ أوليس إغلاق المعبر في وجه الغذاء في وقت يعاني فيه سكان غزة جميعهم من الجوع ويخرجون من ضيق الحصار إلى ويلات الحرب إلى دمار وحصار ما بعد الحرب.. ألا يمثل إغلاق المعبر في هذا الوقت بالتحديد حصار بكل ما في الكلمة من معنى؟؟!!
فليجيبني الحكام العرب: كل قمة عربية اتفقتم أو اختلفتم عليها.. في الدوحة أو في الكويت.. في الرياض أو في شرم الشيخ.. كل القمم العربية خرجت علينا بأربعة قرارات:
1) ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار في غزة.
2) فتح جميع المعابر.
3) إنهاء حصار الشعب الفلسطيني.
4) إنشاء صندوق لإعادة إعمار غزة.
هل هذه القرارات ملزمة لإسرائيل أم للدول العربية؟؟
في الحقيقة هي ليست ملزمة لإسرائيل لأن ((الصديقة)) إسرائيل لا تحترم أي معاهدة أو اتفاقية بينها وبين العرب.. فما بالنا بقرارات القمة العربية؟؟ ما هي وسيلة الضغط على إسرائيل لتوقف فوراً إطلاق النار استجابة لقراركم؟؟ لقد أنهت إسرائيل العدوان على غزة وأوقفت إطلاق النار فقط حين كبدتها المقاومة الفلسطينية الباسلة خسائر على أرض المعركة وليس استجابة لقرارات القمم العربية، ولا لطلب الرئيس مبارك الذي ظل صامتاً 22 يوماً ينظر إلى ما يحدث في غزة كمتفرج، ثم خرج علينا بعد اتفاقية (ليفني- رايس) بمطالبة إسرائيل بالوقف الفوري لإطلاق النار.. فلماذا لم يطالب إسرائيل من اليوم الأول بوقف إطلاق النار إن كانت ستستجيب لطلبه بهذه السهولة؟؟
قرار فتح المعابر وإنهاء الحصار.. لم ولن تلتزم به إسرائيل، فهل تلتزم به مصر؟؟!! أم تلتزم بحقٍ ((مزعوم)) لإسرائيل بأن تعرف ما يدخل إلى غزة؟؟!!
سؤالي الأخير إلى الحكام والقادة العرب: لماذا عزفتم عن صد العدوان الشرس على غزة 22 يوماً، ثم قررتم إنشاء صندوق لإعمارها؟؟ هل إعادة الإعمار ستبرئ ذمتكم أمام الله وأمام شعوبكم العربية وأمام العالم أجمع؟؟
ماذا تقولون لربكم غداً؟؟ بكم شهيد وجريح وقعيد ومشوه ومظلوم ومسجون ومكلوم ستلقون ربكم يوم القيامة؟؟ ما حدث في غزة لم يمر.. بل سيظل شاخصاً في ذاكرة التاريخ الذي لم ينسى لصلاح الدين حتى اليوم أنه حرر بيت المقدس.. والذي لن ينسى لكم أنكم تخاذلتم عن نصرة فلسطين.. عام وراء عام يمضي.. قمة وراء قمة تعقد.. اتفاقية وراء معاهدة تكسبنا مزيداً من العار والتواطؤ وتمويع القضية.
أعود من رحلتي إلى رفح تشق الحافلة ظلام الليل كالصاروخ.. ظلام باسط ذراعيه.. لا يعرف حدوداً لرفح ولا لغزة.. فقبضته تطال أمتنا العربية والإسلامية من أقصاها إلى أقصاها.. موقنة أن شمس غداً ستبدد الظلام، ولكنها لن تبدد الظلم والطغيان والحصار والعدوان.. فهؤلاء تبددهم شمس تشرق من كبد الأرض بإصرار مقاتلي غزة وصبر شعبها المكلوم ومثابرة من يبيتون أمام المعبر حتى يُفتح لهم.
واقرأ أيضاً:
مدونات مجانين: أنا والمجانين.. ما بيصير!!! / مدونات مجانين خيال ظل!! / علمني حبك.. أن أحزن!! / الفارس الأول