أكتب هذه السطور قبل نهاية يناير بأيام قليلة، وبعد بداية غير مسبوقة للعام الميلادي، فقد قررت دولة الصهاينة الإجهاز على من حاصرتهم في غزة، وانتقلت من شكل إلى شكل للمعركة الممتدة لترويض وإخماد المقاومة مستخدمة أكثر من سلاح، بعضها رأيناه ورأينا آثاره المادية من فسفور أبيض، وقنابل مختلفة الأنواع والأحجام، ودبابات وطائرات، وأسلحة أخرى لا يدركها إلا خبير، ولا تفوت على لبيب!!
وجف حلقي وأنا منذ اليوم الأول للحرب أحاول على عدة جبهات، جبهة الوعي بطبيعة هذه المرحلة من الإشتباك مع الصهاينة، وكيف أن الجانب الإعلامي والنفسي وبرامج التأثير على العقول، والتلاعب بالأدمغة، واتجاهات الرأي العام العربي، وبقية هذه المنظومة كانت هي الجانب الأهم، وما زالت تتصاعد وتيرتها، وكثير منا عن ذلك غافلون!!!
جبهة أخرى، وهي جبهة الحركة والمناصرة لدعم أهل غزة، وجف حلقي وأنا أصرخ بكل طاقتي أنه يمكن لكل فرد أن يفعل الكثير وحده أو مع مجموعات صغيرة، ووضعت على موقعي أمثلة عديدة، ومقترحات ببرامج متنوعة للدعم والمساندة الفورية والممتدة لقضية فلسطين، ومحنة غزة على مستويات عدة، وما زلت أتناول هذا بالشرح والتوصيف والتشجيع وسط جماهير تبدو منقطعة عن استخدام إمكانيات العصر والإنسان كما خلقه الله في مناصرة قضية أو دعم إنساني لشعب تحت الحصار والقصف والتجويع والقتل!!
وجبهة الوعي ما زالت تفزعني وأنا أرى المرجفين والمضللين وأصحاب الوعي المنقوص يلعبون في أدمغة الناس بكلام مردود وسخيف ومتهافت، ومعلومات إما مغلوطة أو ناقصة مبتورة أو كاذبة فاجرة، وإعلام آخر تعبوي يريد مناصرة المقاومة فيقع في أخطاء قاتلة، وكتبت عن هذا في حينه (انظر: إعلام العدوان على الذات وأيضًا نحن ضحايانا) وبالجملة ضايقني أن يكون أنصار المقاومة بكل هذا العجز عن تفعيل واستخدام أدوات الفعل المدني، وهي بلا عدد، وأن دعم فلسطين شعبيا ما زال يراوح في مساحة جمع التبرعات، والإلحاح بالدعاء والصلوات ومحاولات متناثرة لاستعادة المقاطعة على استحياء، بل أدهشني أن تصدر فتوى أو تذاع، منسوبة للمفتي السعودي يستنكر فيها المقاطعة، ويعتبرها "طعطعة"، ولا أدري معنى الكلمة حتى الآن، لكنها من السياق تكاد تحمل رنة تحقير أو تهوين أو تقليل شأن!!
أقول أن من يعروفون طبيعة توازنات القوى، وساحات المعارك، وأساليب النضال والتأثير والتحريك والضغط في عالم اليوم سيدهشه جدا أن أمة المليار ونصف في كل نازلة تنقسم إلى فرقة محدودة ـ بطبيعة الظروف ـ تقاتل جيشا في دولة، أو بالأحرى دولة في جيش، وبقية أمة المليار ونصف يصرخون ويولون، ويجمعون التبرعات، أو يرضون من المقاومة بأضعفها، وهو إنكار القلب والدعاء على الظالمين وفي هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم إشارات واضحة، لمن كان له عقل، وتوضح أن أساليب وأشكال الصراع، واستخدام أنواع ومستويات القوة، هذه الأساليب لا حدود لها، ولا بأس أن يتعلم الجاهل، ويتذكر من نسي، وينتبه الغافلون.
حاولت أن أقول هذا وأضرب أمثلة، وأرفع وعيا باستخدام الوسائط السمعية مثل برنامجي"فش غلك" في حلقات أربعة متوالية، وعبر مختارات ومدونات وضعتها على موقعي، وأرجو أن أكون قد أضفت جديدا.
الجبهة التي بدأت بها فور معرفتي ببدء العدوان كانت جبهة التخصص، وكنت في اجتماع الخميس بموقع إسلام أو لاين صيف العام 2006، وعقب ضرب لبنان قد اقترحت أن نسافر إلى لبنان بأنفسنا لتقديم الدعم النفسي لأهلنا هناك، وكان أن رفعت إحدى الزميلات هذا المقترح لإدارة الموقع، وتحركت الجهود لنسافر أفواجا إلى لبنان تنفيذا لهذه الفكرة التي أراها من أبسط ما يمكننا تقديمة لأهلنا تحت القصف.
هذه المرة رأيت من الأفضل أن يكون التحريك أشمل وأوسع وأكثر تخصصا فاقترحت على أخي وشقيقي د.وائل أبوهندي أن نتصل بأستاذنا الدكتور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي المعروف، ورئيس اتحاد الأطباء النفسانيين العرب حاليا، والرئيس الأسبق للجمعية العالمية للطب النفسي، وكان الهدف من الاتصال أن يكون الاتحاد هو المنظمة العربية الأولى التي تبادر بإعلان استعدادها لتقديم العون المتخصص داعين غيرنا إلى أن يقدموا ما لديهم، كل بحسب تخصصه، فيما يمكن أن يكون سبيلا، أو مدخلا من مداخل الدعم لأهلنا، يمكننا تسميته: الدعم المتخصص.
والحق يقال أن استجابة الدكتور عكاشة كانت سريعة ورائعة، وتحقق لنا السبق، ولله الحمد، مع التنوية بجهود مراقبة الصحة النفسية بوزارة الصحة المصرية التي أوفدت زميلا شابا إلى موقع الأحداث على الحدود مع غزة فور بدء القصف الوحشي, وعلى مستوى اتحاد الأطباء النفسانيين العرب تشكلت لجنة الكوارث برئاسة أخي د.وائل، وأعتز بمساعدته في إدارة شئونها، وقدمنا الكثير من المشورة للزملاء والأخوة والأخوات العاملين في مجال الصحة النفسية داخل غزة منتظرين إمكانية دخولنا إلى القطاع، وهو ما نعتزم القيام به بعد أيام بمشيئة الله.
حين لاح أن الدخول إلى غزة صار ممكنا، وأن تقديمي لواجبي في الدعم المتخصص صار مطلوبا... سألت نفسي: هل صراخي وجهدي وعملي على بقية جبهات الدعم والدعوة إليها أنفع وأفضل لغزة أم أن السفر أوجب؟! أيهما تحتاجه غزة أكثر؟!
وتزداد أهمية السؤال وأنا أرى حروب الوعي، وضغوط الترويض، وكيد الماكرين، واللعب في الدماغ، وكافة أشكال المعارك والحصار، ومحاولات كسر الإرادة، ودعم الحصار تتكاثر.. هل أسافر أم أبقى؟! قلت لنفسي: أنا محتاج لغزة!
واقرأ أيضًا
على باب الله: الجهاد الاكبر/ على باب الله: ما لا يقال: منمنمات غزاوية