هذه هي الحلقة الأخيرة في هذه المقدمة التي لا أتصور أنها يمكن أن تغّير شيئاً. المحنة ليست قاصرة على مصر أو على البلاد النامية. كنت في زيارة قصيرة بين فيينا وميونيخ وكان، واضطررت أن أكتب بعض العقاقير التقليدية التي ما زالت –والحمد لله– موجودة في مصر (إلى أن تختفي)، وإذا بها (العقاقير التقليدية) غير موجودة أصلاً هناك. لا يوجد عندهم (في بلاد بره المتقدمة جداً) إلا العقاقير الجديدة الباهظة الثمن الأقل فاعلية.
العقاقير الأحدث ليست هي الأفضل دائماً بشهادة كثير من الأطباء والمرضى وبعض الأبحاث الأمينة. إذن ماذا؟ الحكاية أن ثمة اتفاقاً غير مكتوب بين شركات الأدوية وشركات التأمين وبعض المحامين للتركيز على ما يسمى الأعراض الجانبية، ومن البديهي أن المريض لا يريد –ولا ينبغي– أن يتعرّض لأعراض جانبية، لكن ما العمل وقد علّمونا من قديم أن العقار الذي ليس له "آثار جانبية" هو عقار متواضع ليس له "آثار علاجية" تذكر. لماذا يصرّون أن ننسى أنه "لا بد للشهد من إبر النحل"، وأن "إللي عايز الجميلة يدفع مهرها"، بمعنى أنه من يريد مفعول عقار ناجع عليه أن يتحمل بعض آثاره الجانبية، علماً بأن هناك عقاقير طبيّة تعطى جنباً إلى جنب مع هذه العقاقير العظيمة الفائدة حتى تقلل من آثارها الجانبية. هناك أعراض بسيطة مثل جفاف الريق أو زغللة العين تتراجع تدريجياً مع الاستعمال، ومع ذلك فالشركات تبالغ في التخويف منها، وتتصنع محاولة تجنبها بالدعاية للعقاقير الجديدة الباهظة الثمن، ثم يمر زمن وزمن، وإذا بالعقاقير الجديدة لها أعراض جانبية أخطر أخفى (لا أريد أن أذكرها حتى لا أخيف الناس).
الأفضل أنه –ما أمكن ذلك- علينا أن نستعمل الدواء القديم الناجع الرخيص الذي تأكدّنا من حدود أعراضه الجانبية، خاصة لو كانت عندنا الوسيلة للتغلب على بعضها، والتخفيف من بعضها الآخر، والتعوّد –دون ضرر– على ما تبقى بعد ذلك، حين يفهم المريض كل هذا بهدوء ووضوح يتعاون أكثر مما نحسب. أحياناً يشكو مريضي أن الدواء "نشّف ريقي"، فأرد عليه مازحاً: "مش أحسن ما مرضك ينشف ريقنا، وينشف دمنا كمان"، فيفهم ويواصل وربنا يستر.
مهما كان الإغراء والتحديث، فالمريض والنتائج هما الحكَم الأول والأخير، ومنع الضرر وتجنب النكسة هما الهدف الأول والأخير.
مرة أخرى: الطبيب مسؤول أمام ربه ومريضه وضميره، قبل وبعد وصاية شركات الدواء وإرعابها من كل ما يمكن أن يفيد المرضى، لمجرد أنه الأرخص حتى لو كان الأنفع.
نشرت في الدستور بتاريخ 4-9-2005
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: البنتُ والعـلَمْ / الزمن والتاريخ، ومعنى ما هو: أوباما / الحذاء الطائر، والبصقة العالمية، ومسؤولية الفرحة