ما أروع أن تشعر بالأمن والاستقرار، بين عائلتك والأشجار... هكذا كانت حياة أم شهد كما تحب أن يناديها جيرانها، فبرغم أن لها تسعة من الأبناء الذكور كانت (ست إخوتها)، شهد البريئة ذات الثمانية عشر شهراً فقط هي الأقرب إلى قلب صباح، الأم الفلاحة والزوجة البسيطة. كانت حياتهم هادئة وساكنة إلا من أصوات الطلقات البعيدة، ولم يراودها حتى في أشد كوابيسها ما حصل في تلك الساعة المشؤومة من اليوم السابع من العدوان البربري أو تسونا مي الوحوش الضالة أو سمِّه كم تشاء.
مع غروب شمس ذلك اليوم المشؤوم وبينما العائلة الوادعة تحتمي بجدران منزلها، هزّ المنطقة صوت انفجارات متعاقبة حتى ظن أهل المنطقة أن ساحة المعركة انتقلت إلى شوارعهم الضيقة ومزارعهم المتواضعة، فما كان من صباح وعائلتها إلا أن انتقلوا إلى غرفة منزوية في البيت الصغير ظنّاً منهم أن سقفهم من الاسمنت المسلح سيحميهم من نار الشيطان المسلح القادم من مملكة بني صهيون المسلحة بكل مشاعر السادية والكراهية، وإذ بصاروخ يقتحم سقفهم ويقع أمام باب غرفتهم التي احتموا بجدرانها، لكنها ليست مجرد قذيفة عادية، ياللهول... إنها كتلة من الجحيم ما أن تلمس شيئاً حتى تحيله إلى رماد، لم تكن تلك الأسرة البسيطة تعلم ما كان ينتظرها وما حل بدارها، إنه أفتك أسلحة الدمار المحرمة دولياً، إنه الفسفور الأبيض معه يصبح كل شيء أسود.
وانطلق الصراخ في البيت؛ المرأة والطفلة، الابنة والجدة، الجد والحفيد، واشتعلت غرفة النوم والمطبخ، الأبواب والشبابيك، وعلا الصراخ والعويل، ولم يجد أهل البيت للهرب من سبيل، وما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى وجدوا ملابسهم وأجسادهم تلتهمها النيران العجيبة فلا الماء ولا بطاطينهم البالية قادرة على إطفائها، وتداخلت الصور أمام عيني صباح فغابت المسكينة عن الوعي. أفاقت في المرة الأولى وإذ بها محمولة على سرير من حديد ظنت أنه نعشها، لكن ما لبثت أن غابت عن الوعي مرة أخرى ولم تدرِ كم مر من الوقت عندما أفاقت وهي محمولة في (سكين الكباش) كما اعتادوا أن يسموا تلك الآلة في منطقتهم، ولكنها ما لبثت أن لفظها الجراف على الأرض ولم تكن تدرى المسكينة أن قذيفة أخرى أطاحت بالجراف، وغابت مرة أخرى عن الوعي وكأنها سكرات الموت تأتيها موجة بعد موجة، وفي النهاية وجدت نفسها على عربة كارو يجرها حمار وقف بباب مستشفى كمال عدوان في جباليا.
تدخل الأطباء ليحقنوها بأقوى المسكنات والمنومات، ليس لمعالجة حروقها البالغة في اليدين والقدمين فحسب بل لأنهم لم يريدوا لها أن تعي ما حل بعائلتها الكبيرة، فنصيب تلك العائلة المنكوبة من القسوة الصهيونية والهجمة البربرية كان أشد من أن يوصف، وحجم المأساة أكبر من أن يتحمله قلب بشر، ولا حتى جلمود صخر أو أعتى حجر، وقرر الأطباء إبعاد تلك المرأة المكلومة إلى مستشفى الشفاء، هناك في عزل قسم الحروق لعله لا يصل إلى مسامعها ما حل بعائلتها.
ولكن هل تستطيع القلوب الرحيمة للأطباء أن تخفي تلك الأنباء إلى أمد بعيد؟ لم يكن هناك بد من أن تعلم أن العائلة الكبيرة لم تعد كبيرة، وأن شهد الذرية قد ذهبت أدراج الرياح، فاستعانوا بالأخصائيين من مستشفى الطب النفسي لعلهم أقدر على التعامل مع تلك القصة المروعة، فالموت قد حلّ بأسر كثيرة ولكن نصيب أسرة صباح لم يكن مجرد موت، فإذا كان القتل قدر خمسة من أفراد عائلة صباح، فإن قدر جثة الطفلة البريئة انتهت في العراء، نهشتها الكلاب الضالة لاثني عشر يوماً متتالية قبل أن تصل إليها سيارة الصليب الأحمر لتنقلها إلى من تبقى من أسرتها ويواروا ما تبقى من جثمانها الطاهر بجوار والدها وأشقائها الثلاثة الذين قضوا في نفس اللحظة من تاريخ البشرية المخجل، واجتمعوا أخيراً تحت التراب متلاصقين، بعدما فرقت بينهم وحشية الصهاينة الشياطين.
ها هم، من تبقى من أبناء صباح يحيطون بسريرها في المستشفى: "لا تبك يا أماه، لا نريد أن نسمع منك البكاء والنواح، نريدك أن تستعيدي صبر الفلاح، فالحياة يجب أن تستمر. ونقسم يا أماه أننا منذ اللحظة سنمسك الفأس بيميننا والسلاح في شمالنا لنحافظ على أرضنا وكرامتنا، وسنبقى دائماً عنواناً للصمود والانتصار".
غزة الصمود
اقرأ أيضاً:
مجزرة في غزة و العرب بلا عزة؟؟/ غزة صمود وأمل/ يوميات مفرووووسة جدا... غزة!/ غزة/ حروب غزة التي بدأت/ مع غزة ومن غزة/ الطريق إلى غزة/ حكايات من غزة