في مطلع الصباح ومع بداية الانفتاح، أعني انفتاحي أنا، على العالم وصلتني المقولة المتداولة على استحياء أحيانا، ومصورة أكثر وضوحا في أحيان أقل، وهذه المقولة تتلخص في أن الدين / الإسلام وهو الثقافة الغالبة في منطقتنا هو من أهم أسباب تخلفنا والبؤس الذي يحيط بنا!!
وصدمتني هذه المقولة في حينه، ورفضتها طبعا، مثلما سيرفضها أغلب من يسمعونها، وعشت من وقتها أحاول إثبات عكسها، وتصادفني مقولات أخرى مضادة، ودفاعات حارة عن الإسلام مستمدة من القرآن العظيم، أو أحداث مشرقة في مسيرة هذا الدين، أو نماذج إنسانية رفيعة صنعها الإسلام برسالته، أو آيات كونية أو أسرار في الحياة أو النفوس كشفها نص من الكتاب أو السنة!!
لكن هذا الدفاع الحار فشل ويفشل حتى الآن في الإجابة على سؤال:
لماذا يتأخر حال المسلمين، بينما يعيش غيرهم في حال أفضل، دنيويا على الأقل؟! وهو ما يفتح المزيد من الأسئلة حول: هل الإسلام دين للآخرة فقط؟! أم أنه لعمارة الدنيا أولا، وثانيا فإن عمارة الدنيا فيه هي السبيل لعمارة الآخرة، بوصفها حياة واحدة ـ طبقا لمفهوم الإسلام ـ لها شطر أول "الحياة الدنيا"، وشطر يليه "الحياة الآخرة"!!
ولأن من يدفعون بمقولة تخلفنا بالإسلام، وتخلف الإسلام عن العصر يتوارون بكلامهم خلف مقولات أخرى، أو هم من المدانين سلفا، أصحاب الوصمة أو الاتهام بالعمالة الحضارية، أو العلمانية أو غيرها من التهم الجاهزة لدينا لقتل أي مخالف لتفكير القطعان الذي تربينا عليه، واكتفاءا بالدفاعات الحارة المستمدة من القرآن العظيم أو السنة أو التاريخ، واطمئنانا وسكونا، أو كسلا أو رعبا عظيم نغض الطرف عن هذه المقولة، أو نتنهد قائلين: الإسلام دين عظيم، ولكننا لا نطبقه كما ينبغي!!
والحقيقة أن تطبيق الإسلام هو عملية فردية وجماعية، والإسلام نفسه يدخل في مساحات كبيرة جدا ومتزايدة بتصاعد ووتيرة متسارعة جدا، حتى يكاد يكون العنصر الحاكم في فهمنا للعالم، وتعاملنا مع البشر، وإدراكنا للحياة والكون والعلاقات، وغايات الخلق، وتفاصيل العيش!!
وإسلامنا يبدو عائقا لنا عن فهم العالم والتواصل معه، وإدراك الكون، وعلوم الحياة، وسنن الله، لأننا نحن جميعا ـ إلا من رحم الله، وقليل جدا ما هم ـ نعيش ونتعايش مع أفهام وتطبيقات، ومعلومات وطبعات، وأفعال وكيانات تبدو شديدة التشوه والتخلف، ومعاداة الخلق، والبعد عن العقل والحكمة، وهي في الوقت ذاته تقدم نفسها بوصفها إسلامية صميمة، أو خالصة في أصالتها ونقائها وتعبيرها عن روح الدين ومعانيه ومقاصده!! ونحن نقبل هذا الإدعاء ونمرره ونقبلها!
نحن لا غيرنا نعيش في ظل أنظمة حكم فاسدة وتابعة ومستبدة، بعضها يضع قشرة الإسلام رقيقة خفيفة، وبعضها يضع عباءات وأقنعة ثقيلة تعطي الانطباع بإسلامية هذه النظم المسئولة بقدر كبير عن تخلفنا وضياعنا، وهواننا على الناس!!
ومنا من يقف ليسمي هؤلاء "أولي الأمر" ليطبق عليهم مقولات الشرع عن السمع والطاعة، وعدم المخالفة ما أقاموا في عبيدهم، أقصد شعوبهم، الصلاة!!
ومن خرج على ذلك لم يجد إطارا لفقه الخروج على الظلم إلا حمل السلاح، وإراقة الدماء، واستخدام خطاب وأدوات أوصلت رسالة للجميع أن السيف المسلول فوق الأبدان والرقاب تكمن مشكلته في أنه ليس إسلاميا بالقدر الكافي، وأن استبدال السياف، لا طريقة الحكم بالسيف، هو الهدف للإصلاح، وأمل الخلاص وفجر التغيير!!
فصارت مفارقة حين دار حوار الإصلاح، ورحى الحرب حوله بين المستبد الفاسد، والمستبد "المؤمن" "الصالح" بديباجات من القرآن، ومقطوعات من كتب الفقه، وتفسيرات بعينها لهذه الآية، أو ذلك الحديث!! وكأن هدي الإسلام في شأن الحكم هو تحديد طول لحية الحاكم، لا كفاءته واحترافه ومهنيته العالية
استبدال الراعي الحالي بآخر صالح يجر نفس القطعان بدا هو الهدف، وهو الإسلام الذي ندعو الناس إليه أحيانا، وفي حالات تم استبدال الراعي فعلا، ولم تكن النتائج كما قيل أنها ستكون، وعاشت الملايين، وما زالت تعيش، ذلك الحلم الغامض المسمى بالدولة الإسلامية التي لم تأت أبدا، ولن تأتي، لأنها محض وهم تصوره بعضنا وروجوا له، وصدقهم آخرون، وبالتالي بدلا من أن نبحث عن معايير محددة للشفافية والعدالة والكفاءة والقدرة والمحاسبة والتغيير الدوري والفاعلية الإدارية والمهنية بقينا محبوسين نجتر كلاما عاما وساذجا نترجم به مقولة: "الالتزام بالإسلام"، فنصرفها إلى خطوات نقتصر عليها، ومساحات لا نتطرق لغيرها، وشكليات لا تكاد تنفذ للجواهر، وإلى قائمة أولويات مختلة!!
وكما حصل على صعيد الحكم والسياسة حصل على صعيد الفكر والبحث، والعلم والنظر، وفي الإسلام قاعدة وضعها أشرف الخلق أجمعين حين قال: "أنتم أدرى بشئون دنياكم"، وأحسب أنها كانت إشارة بدء لعملية جبارة انطلقت في حينه للبحث عن أسرار الكون، وطاقاته وموارده، والإصغاء لأسئلة الحياة وتحدياتها في فهم نظريات الأفلاك، وطبقات الأرض، وطبائع النفوس، وقوانين المعادن، وسنن الله في الاجتماع البشري... إلخ، وهذه الانطلاقة الهائلة هي التي وضعت المسلمين في مقدمة الحياة والحضارة، ثم نحن الآن نسكت على من يقول أن العلم الشرعي أهم من علوم الدنيا، وكأن الدنيا هذه ليست دنيا الله، وكأن علومها ليست من الله مثل علوم الشرع، وكأن أمة فيها ألف فقيه في مسائل الحيض والنفاس والمسح على الجورب خير من ألف عالم يفهمون في الطاقة النووية، أو الحرب الجرثومية، أو استخدام التكنولوجيا في فهم أدق وأعمق لعمل أجهزة الجسم!! ومبروك عليك النصر يا إسرائيل، لأن علوم الشرع عندنا أهم من علوم الكون!! ونحن نسمع هذا ونصمت، ونشارك في منظومات التخلف باسم الدين مستهلكين، وجاهلين بالدنيا والدين!!!
الإسلام يدعو ويحرض ويأمر ويكرر عن أهمية الاجتهاد والتفكر والتدبر والتعقل، ونحن نحاصر العقل والعقلانية، ونعتبر الفكر والثقافة من ترف المجالس، أو من زوائد الحياة، وننساق خلف كل ناعق بخير رفع عقيرته، أو بشَّر، طالما قال باسم الله، أو نقل في كلامه عن رسول الله!! ونسمي هذا التزاما بالدين، ونفرح بزيادة نسبة أغطية الرأس أو أعداد المصلين في المسجد، ولا ننزعج من انحسار الإقبال على الكليات العملية في جامعاتنا أو قفز الملايين من شبابنا في بحر المتوسط محاولة وملاذا بالشاطئ الآخر حيث "الكفار" الذين لم يرزقهم الله "نعمة" الإسلام!!! يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!!
أنظر إلى خريطة أقطار المسلمين فأجد توزيعا عجيبا لمساحات يخنقها الترف الاستهلاكي حتى لا تكاد تفيق، ومساحات يطحنها الفقر المدقع، والمغبة القاتلة حتى يموت الأطفال مفتقدين أبسط مستويات الغذاء والدواء!!
ورسول الله يقول: والله لا يؤمن (كررها ثلاث) من بات شبعان، وجاره جائع، وأنا هنا أتحدث عن أي جار، وليس أهل الرحم ذاته والانتماء لنفس الدين المظلوم من أهله قبل أعدائه!!!
جاء الناس من كل الدنيا إلى غزة، وتحركوا في أقطار العالم كله فزعا وإشفاقا وتعاطفا مع طفل غزة مبتور الأطراف، أو الأم الثكلى هناك، أو غيرها من مشاهد الدمار!!
جاءوا إلينا ليخوضوا معنا نفس حربنا ضد الوحشية والبربرية والإجرام الصهيوني، ونحن نقابلهم بقولنا: فلسطين قضية دينية، وحرب بين المسلمين واليهود، وبالتالي فلا مكان لهم لأنهم لا مسلمين ولا يهود، يعني جاءوا خطأ!! مع السلامة شرفتونا والله، بس نعمل إيه، والقضية دينية!!
لأ وفرحانين قوي بنفسنا، ونحن نقول هذا الكلام، ونرد به على مقولة "هبلة" أخرى أن القضية لا علاقة لها بالدين، وكأن الاختيارات المتاحة أمامنا هي أن الحرب إما دينية أو لا دينية؟! والحقيقة البسيطة التي يمكن أن يراها أي أعمش أن الدين ليس بعيدا عن أي نشاط في الحياة من الحب إلى الحرب، ولكن اختصار الحياة إلى الدين، يشبه اختصار الدين إلى العلاقة بين العبد وربه، ويبدو أننا مولعون بالاختصار والمختصرات، لأنه ليس لدينا وقت لفهم أي شيء بعمق، والفهم يحتاج لوقت، وإحنا مش فاضيين!!
وطالما مش فاضيين، أو لما بيكون عندنا وقت بنقضيه في أشياء أخرى غير محاولة فهم هذا الإسلام الذي نحمله ويحملنا، ويسوء فهمنا وتطبيقنا له فيتشوه بذلك واقعنا، حين ينتج عن بؤس تناولنا للإسلام شر مستطير، وتخلف ثقيل ثقيل!!!!
واقرأ أيضًا
على باب الله: إنهم يعبدون الشيطان/ على باب الله: انتحار جماعي