لست المسيح عليه السلام، ولست موسى الذي يشق بعصاه البحر، ولست سليمان المسخرة له الريح، وقد انتهى زمان الأنبياء!!
أمة الانتظار شطرها يرتقب الإمام الغائب، وشطرها الآخر ينتظر المهدي، ويرصد الشطران ظهور علامات الساعة الصغرى والكبرى، ويتساءلون: متى الساعة؟!
أمة تعتقد وتشيع وتمارس، وكأن الله قد وهبنا الحياة لنتجهز للموت، أو نغرق في الدنيا تارة ثم نهرب إلى ذكر بليد كسول للآخرة، وحالنا والله مضحك من كثرة البكاء!!
هذه أمة حياتها صارت مجرد انتحار جماعي بطرق مختلفة، ولا مكان فيها لرمق الحياة، أو إرادة الحياة، أو خطط الحياة!!
لا حياة النفوس، ولا حياة الأبدان، ولا أستطيع إنكار بطولات هنا أو هناك، ومحاولات شجاعة تدفعها إرادة الحياة ثم يبلعها زمن الإسكات، وإدمان الهزائم والانكسارات، ومنصوبة سرادقات العزاء واللطم والعويل، بينما رايات النصر تطويها الهمم الخائرة والعقول الذاهلة الغافلة، وسنابك جهلنا وتعصبنا، وتمسكنا بل تشبثنا المستميت بالهوان!!
ولا أنوي إضافة المزيد من "التشاؤم" أو الوجع، فالقلوب فيها ما يكفيها، ولكنني فقط أرصد وأتجول، وأحفر وأتعمق باحثاً عن كيف يحصل ما نرى ونعيش، وكيف نخرج وننعتق؟! لعل وعسى!!
ولا أنفي أن هناك نماذج فردية ملفته لدرجة تستدعى الدراسة، ولأنها أفلتت من واقع قاتل، وجماهير تسير إلى حتفها مختارة بعد أن فقدت خارطة الطريق إلى غيره!!
عندما أسلمنا عقولنا للجهل يعشش فيها، ولانعدام المنطق، وضعف الدراية بالدين والدنيا صرنا فريسة سهلة لكل ناعق يلوي لسانه بكلام نحسبه من الكتاب، أي كتاب، وما هو من الكتاب، ولكنه صار عن جهل أو طفولة تصورات هزيلة، ومعارف متآكلة بالعالم والتاريخ وسنن الله في خلقة وأمره!!
الكهان، والمستكبرون في الأرض، وألف قارون وهامان وجنودهما يركبون ظهورنا لأن الحرية التي وهبنا الله إياها منحناها طواعية أو غفلة لنحصل مقابلها على حصاد الهشيم، وقيود العبيد، ولوعة الغريب في وطنه، ومرارة المنافي الباردة بصقيع الشمال، أو تخلف بيئة المهجر!! ننزف دماءنا على قارعة كل طريق، فلا يرحمنا أحد، ولا يشعر بموتنا إلا حفارو القبور، ومطرزو الأكفان، فنحن الغنيمة والزبائن، نولد لنموت، وندفع الأجر في الحالتين، ولا نحصل على أية حياة بين المهد واللحد!!
من يريد الحياة يتحرك ويبحث عن حلول لمشكلاته، وأطر لتغيير "ما بأنفسهم" وخطط للسير والصعود والتنمية، ومن ماتت فيه إرادة الحياة يقبع في انتظار الموت، ويسترشد بخطى حفاري القبور: يستمع لمواعظهم، ويمسح على نعالهم، ويقطع كل وريد يصل بالحياة كما يأمرون وينصحون، فيظل أسيرهم وتلميذهم وزبونهم، بأمرهم يحرم على نفسه التفكير السليم، وحرية الاختيار، وفرز الأنباء والأخبار، وإبداع الموقف والشخصية، والرقي والمتعة، ومشورة الذات والآخرين سبيلا لتسيير الشؤون!!
يتجهز للموت، ويتلو الأوراد، ولا يعمر الأرض لا فن ولا موسيقى ولا حرية رأي ولا تعبير، ولا اختيار رئيس ولا وزير!! إنما الطاعة العمياء، والانقياد للأقوى!!
لا حب ولا إبداع ولا بحث علمي يشكُّ ليصل، أو يتساءل ليفهم، ولا حوار عميق يختلف ليتفق، أو ينتقد ليتطور، أو يبني ليرتفع!!
صدقنا الساسة والمشايخ وفلاسفة الخواء والخراب، أماتوا علينا ديننا ودنيانا، ونسير إلى حتفنا بلا أكفان ولا رمق ولا شكوى، لكن النور ينبثق من روح الطامحين إلى الحياة، المتشبثين بغد أفضل ينتظرهم حين يكسرون قيود الوهم، ويعبرون الحاجز بين الخيال العاجز إلى واقع اليوم والليلة، وصناعة البهجة ممكنة دائماً كما بناء الذات، ونقاط الأمل يمكن أن تتحول إلى مساحات وشبكات، ويمكن أن نعيش الحب والسعادة، ولكن ما نيل المطالب بالتمني!!
الإمساك بلحظات الإنجاز والاعتزاز، قبسات الضوء والإرادة ودفء التضامن متاح إلى قيام الساعة، وبراعم التغيير مخبوءة تحت طبقات الطين المبلل بالندى عند كل صباح، لأن الندى من الله سبحانه واهب الحياة والروح والأمل!!
بداخلنا قوة الإعمار، وقدرة الافتخار، وعنفوان التألق والتحرر من الوهم، ورغبة التواصل وجمال الإنسانية، فقط نحتاج إلى بعث هذه المعاني، وإحياء الصلات والروابط الحقيقية مع فضل الله وعباده الصالحين، وهم ملح الأرض، في كل صباح جديد أمل يتجدد، وسفينة نجاة تبحر بمن شاء.
واقرأ أيضًا
على باب الله: هكذا صار إسلامنا سببا لتخلفنا!!/ على باب الله: لبانة الإنتماء