البعض يكتبون مهنة أو تربحا، والبعض يعتبر نفسه داعية يمسك قلما ليمارس الترغيب والترهيب، ويحبب الناس في الإيمان والدين، والبعض يكتب شهرة أو شهوة أو شبهة، وأنا أكتب أعراضا وأمراضا، وتحليلا وتشخيصا، ولا أرى أن مهمتي هي إعطاء جرعات تفاؤل، ولا تقديم حلول لمشكلات نتجت عن غياب وغيبوبة الناس عقلا وعملا، ولكن غاية ما أهدف إليه وأتصوره، وربما أحسنه، أن أجتهد في معاونة من يريد تشغيل عقله في الفهم لذاته ولما حوله، والتفكير في نفسه وغيره، وتلك مهنتي وهوايتي ورسالتي، ولكنها معضلة كما أكتشف يوما بعد يوم!!!
حين تقابلني عقبات ومشكلات في درب إنجاز هذه المهمة، فمن تراكم الخبرات وتنوعها تتكامل رؤية مركبة وفريدة، متشبعة وغريبة عن الناس، ويصبح التبسيط لازما للتواصل، ولا مفر من الكتابة على طريقة قطعة من هنا، وصورة من هناك، وطريقة المنمنمات هذه تحتاج إلى صبر ودأب في رسم اللوحة، وتحتاج إلى قارئ خاص يتابع ويضع القطعة إلى جوار القطعة، والصورة تحت العنوان الصحيح، ويمارس هو التجميع والتربيط في عقله ليكون تدريبا على ما أهدف إليه من دفعه للتفكير والتأمل.
وأعترف أن هذه المهمة المزدوجة صعبة ومخالفة لمألوف هذا الوقت، وخاصة السياق الذي تعودنا عليه حيث عالم الكلمات المعتادة، والمعاني المكررة، والتفكير والتواصل عبر الكليشيهات سابقة التجهيز، وعدم الاستعداد لاستقبال أية أفكار جديدة أو تصورات مختلفة أو توصيفات أو تشخيصات غير ما نردده ونتداوله، وتزداد المهمة صعوبة في غياب التواصل غير اللفظي عن الكاتب والقارئ فلا مشاهدة ولا معاينة، ولا تعليم ولا تعلم مباشر، ولا نبرة صوت، ولا حركة جسد، ولا حضور طالما كان النص جامدا، ورقيا كان أو إليكترونيا، والناس تعتقد أنها هكذا تتواصل وتتعلم!!!
سألتني: لماذا تصر على المدونات فتحرق أفكارا تستحق تناولا أعمق في مقالات؟!
والحق أن المدونات كانت حلا ذهبيا وسطا بين الصمت الذي اختاره صديقي الباحث عن عمل محكم لا يقوم به أبدا، وبين التأليف الذي لا أستطيعه حاليا!!!
لكن القارئ الجديد يستعجل، والإنترنت يحرق القديم دائما فلا ذاكرة، وبالتالي لا أستطيع أن أرسم اللوحة كاملة في كل مدونة، ومن يعترض على نقص الصورة أو غرابتها لديه الحق من زاوية أنها تعطي ألوانا وظلالا ورموزا لا يمكن فهمها تماما إلا بمعرفة بقية القصة، والحلقات السابقة فاته بعضها، ولم يدرك غير القليل المتناثر منها!!!
ومن أجل ذلك لا أستطيع أن أشعر بالمسئولية ولا الاهتمام الحقيقي إلا بالقارئ القديم المزمن الذي يعرف لغتي، ويدرك خريطتي، ويفهم لوحاتي وألواني وحركة فرشاتي!!
وهذه معضلة أيضا، لأن كل قارئ يزعم ويشعر أن له حقا عند الكاتب، فكيف يمكن الوفاء بمثل هذه الحقوق، والمشهد هكذا مربك وملتبس؟!!
وفي محاولة للتعامل مع هذه الاشتباكات ألجأ إلى نوع من تكرار صياغة نفس المعاني الأساسية التي أحاول توصيلها، فيصرخ القارئ القديم من الضجر والإملال، وربما لا يقنع القارئ الجديد لأنه لم يشبع ولم يستوعب بعد تفاصيل الصور، وأصول الحكايات، ومقادير الوصفات!!
وتتراكم عندي الشكاوي: القراء الأقدم يطلبون معالجات أعمق على غرار مقالات زمان، وبعضهم يشتكي من التكرار والرتابة، والقارئ الجديد يشكو أيضا، وعابري السبيل من قراء المرة الواحدة لا ولن يفهموا شيئا من نص واحد مكتوب بلغة غير معتادة ويعرض جانبا من مشروع فريد ومركب لا يعرفون أبعاده!!
من أين أحصل على أمثال "مي" التي قرأت كل كلمة كتبتها قبل أن تتواصل معي، فقط لتشكرني، وتقول لي: أخيرا فهمتك، وفقك الله!!
من أين يحصل أي كاتب على قارئ صاحب ذوق ومزاج يستوعب النسج الهادئ، وتركيب المنمنمات الدقيقة، وموائد الطبخ الصعب في زمن وجبات "التيك أواي"، وأغنية الأربع دقائق، وعلامات عابرة بكل شيء وأحد؟!
ربما الذهاب إلى أشكال تعبير وتواصل أخرى غير الكتابة يكون حلا!! ربما أشكال كتابة أخرى!!! ربما الاهتمام ينبغي أن يكون بنوعية قارئ معين، وليس كل من يقرأ، ربما البحث عن جمهور جديد!!
أسئلة واحتمالات تواجه أي صاحب رسالة يريد أن يتواصل، أو يكتب لتوصيل شيء، وليس لمجرد الكتابة.
أكثر من ألف إجابة على استشارات، وعشرات المدونات والمقالات، وملايين الكلمات التي يكمل بعضها بعضا، وتتداخل لتصنع بالحروف خريطة لتضاريس دماغي ومقصودي.
أفتقر وأفتقد للقارئ الصبور الحريص على أن يعرف ويتعرف شيئا فشيئا على العالم الذي من حوله، وعن نفسه التي بين جنبيه، ويدرك أن هذا لن يكون أبدا من "كلمة ورد غطاها" إنما من نسيج حوار وكلام، وتغيير يحتاج إلى بناء هادئ كلمة وراء كلمة، ومعنى وراء معنى تنقشع الحجب، وتسقط الغشاوات لنبصر معا بالصبر والبصيرة، فهل من راغب في التشمير؟!!
واقرأ أيضًا
على باب الله: قتل المقاومة: نصائح للمبتدئين/ على باب الله: رأسنا ونعالنا، معروفنا ومنكرنا