هو مقال كتبته في الوفد بعنوان "دليلُ الحاكم الذكي لحكم شعبٍ صبورْ" وحين أعدت قراءته، وجدت أنه مقال مُـتَعتِع برغم مرور عشر سنوات، كما وجدت أن جوهر المحتوى لم يتغيّر بفضل "فرط الاستقرار"، وكان لا بد من اختصارٍ وتحديثٍ حتى يظهر في هذه المساحة، هكذا:
يحكِى التاريخ، في ألف ليلة وليلة وغيرها، كيف كان أمير المؤمنين يتخفّى في زيّ حمّال أو شيخ طيّب، وينزل هو ووزيره، يتفقدان أحوال الرعية.. إلخ. عالمنا المعاصر، اخترع وسائل حديثة "لتفقد أحوال الرعية" أو أخذ رأيها، أشهرها "الانتخابات" سواء على مستوى الدولة، أو المحليات.. إلخ، ثم إنه اخترع طريقة أسرع، تسمّى "قياس الرأي العام"، ونحن والحمد لله زوّرنا الوسيلة الأولى، واستهبلنا ونحن نجمع أرقاماً عجيبة، ينشرها "مركز أعلى للمعلومات واتخاذ القرار"، لا أشك في أمانته، لكني أتعجب من منهجه، وهو يطلب –مثلاً– الإجابة بـ "نعم" أم "لا"، إذا كان المواطن المصري يحب بلده جداً أم "لا"!!!
المقال القديم يركز على ترشيد الحاكم كيف يعرف أحوال الرعية، لكني رأيت أنه أيضاً أشبه "بالوصايا" أهديها لحكامنا الحاليين والقادمين بالسلامة، ربما تعفيهم من مشقة الزيارات "المفاجئة جداً"، للقرى والنجوع، والمدارس والمصانع، ولا تضطرهم للحرج حين يزف الإعلام القومي هذه الزيارات باعتبارها اكتشافاً غير مسبوق أنه: "ماحْلاها عيشة الفلاح"، وأن "..الفضل كله لبابا الحاكم، أو لأبلة الناظرة"، أو للمعونة "التي هي".
الوصايا العشر:
نوصي كل حاكم ذكي بالقيام بما يلي:
1- تصنيف محتوى الصحف القومية إلى:
(أ) مقالات النفاق (الظاهر، والخفي)،
(ب) أخبار التمويه،
(جـ) إعلانات مستفـزَّة،
(د) مقالات النقد الموضوعي النادرة.. إلخ.
2- البحث في بعض صحف المعارضة، بعد لعن محرريها، عمّا قد ينفعه لصالح الناس.
3- الإنصات إلى لغة الشباب، والصنايعة( البيئة)، وسوف يجد ما يفيده: مثلاً
(أ) "ما يْنُولْ ويطولْ إلا اللي في البلد مسؤول"،
(ب) "رِكِب الموجة"،
(جـ) "دولْ عِصابا يابَا"،
(ء) "إنسَ وخد البـِنسَةْ".. إلخ.
4- التأني في قراءة النكت السياسية، ففيها ما ينفعه فيما يتعلق بتقييم الذكاء السياسي وغير السياسي، ودلالات الاستقرار، ومغزى العلاقات الخارجية، ولا مانع من أن يعتبرها "قلة أدب" و"سفالة"، لكنها قفشات مفيدة بإذن الله!.
5- قياس هيبة الدولة وقوة القانون، بالسير راجلاً في شوارع العاصمة مثلاً، ليرى ما آلت إليه حال الأرصفة، وطريقة ركن العربات في الشوارع الجانبية، بمنيل الروضة (كمثال)، ثم علاقة حركة السيارات والمارة بإشارات المرور.. إلخ.
6- فهم معنى الاحتجاجات الموسمية للصحف، قومية ومعارضة: على صعوبة الامتحانات، ثم جهودها في تدليل الطلبة، ومسح دموع الطالبات، واستجابة الوزارة لذلك برشوة الأهالي... إلخ.
7- التأمل في معنى الدرجات النهائية وفوق النهائية في الامتحانات العامة.
8- مراجعة قدرة حملة الدبلومات المتوسطة، وأحياناً الجامعة، على كتابة جملة مفيدة (مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل).
9- زيارة إحدى المنتجعات "المستقلة ذات السيادة" على أطراف القاهرة.
10- التمعن في معنى ودلالات انتشار التليفون المحمول، "هكذ" !!!..إلخ.
ملحق: دعوة ختامية لتجربة عملية.
يمكن لأي "حاكم" ما زالت عنده قدرة على التخيل، وبعض حب استطلاع، وقدر من المغامرة، وما تيسّر من مسؤولية، أن يخصص يوماً لا يعرفه غيره، كل شهر، يمضيه متخفياً في زي مبيض محارة، صاحب مصلحة، أو صاحب مزاج، ليقوم بالجولة التالية:
(نبدأ بالعاصمة):
"... في هذا اليوم: يركب معاليه –وحده تماماً- ميكروباص إلى الأباجية، ويجلس في قهوة بلدي في منشية ناصر، وينصت إلى حديث لاعبي الدومينو، ثم يأخذ تاكسي إلى ميدان الجيزة، ويدردش مع السائق، ثم يحشر نفسه في الدرجة الثانية في أتوبيس عام (يِستحمل علشان خاطري!!) مروراً بشارع الملك فيصل، ثم يعود معاليه ليتناول غداءه على الرصيف في ميدان الحسين، ليعود بعدها راجلاً إلى العتبة الخضراء، ويأخذ آخر ما يوصلّه إلى حارة السكر واللمُونْ بمصر القديمة...، وعند عودته إلى منزله لا يفتح قناة الجزيرة، أو يشاهد برنامج "البيت بيتك"، وإنما يشاهد جزءاً من مسرحية "ريّا وسكينة" ويتأمل سهير البابلي وشادية، ويفتقدهما، ويدعو لهما! أو يشاهد الريحاني في بعض فيلم "سي عمر"، ويقارن هذا وذاك، بآخر مسرحية فكاهية لم يكملها، وآخر فيديو كليب أصابه بالغثيان.
يجلس معالي الوزير ويتذكر الحديث الشريف: أن "الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، ويستلهمه قياساً: أن "الإحسان" في الحكم: هو أن تحكم الشعب كأنك تعرفه، فإن لم تكن تعرفه، فحاول أن تعرفه (بهذه الوصايا وغيرها) لأنه يعرفك، (ويفقسك، و"يستحلف" لمعاليك"!!).
نشرت في الدستور بتاريخ 1-4-2009
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: هل أنت مثقف؟ / تعتعة سياسية: النظام العالَمي القَـبَـلي الجديدْ: آلهةٌ وأنعام!! / تعتعة... الآخرون