أمتنا الطيبة سمعت أن الأعمال بالنيات، وبالتدريج ـ وكما حصل مع أشياء كثيرة ـ أصبحت الأمة تعتقد، فيما يبدو، أن الأعمال هي النيات!!
وهذا تفسير معقول لحالة الشلل والعجز ـ كما أسميه، ويراه البعض ـ بينما آخرون لا يرونه كذلك، لأن مليارات الدعوات الصادقة تنطلق من حناجر مؤمنة، وأيادي متوضئة ترتفع إلى السماء تطلب ما يتوافق مع ما يتواجد في قلوب تحمل طوفانا من النوايا الحسنة، والأماني الطيبة للإسلام والمسلمين، ونذرف الدموع، ونقيم الصلاة، ونصوم رمضان والنوافل، وننتظر النصر أو التغيير، وأحيانا يصيبنا اليأس ثم نقفز إلى الأمل (ربما من باب كسر الملل)!
ونحن نفعل هذا في غياب كامل لأية مقدمات موضوعية واقعية ملموسة تقول أننا كأمة في مجموعنا نقترب من ملامح بدايات إدراك مواطن الخلل، أو خطط العمل!!
وبالتأكيد ستسمع جهابذة يتلون عليك قوله تعالي: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ..."(الأعراف:96) أو قوله تعالى: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً* مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً" (نوح من الآية10: 13)
وصدق الله، ولكن الجهابذة يصرفون معاني الإيمان والتقوى والاستغفار، وحتى توقير الله عز وجل، والخوف منه إلى المعاني البسيطة القريبة الجزئية!!
هل سمعنا من يقول مثلا أن الاستغفار هو منهاج كامل شامل للمراقبة والمراجعة والتصحيح والترشيد والتسديد والإصلاح أولا بأول؟!! وهل يوجد في حياتنا ـ ولا مؤاخذة ـ شيء من هذا؟!
إن الاستغفار هو معنى أشمل وأعمق من مفهوم مراقبة الجودة، ويشمل فحص النية والعمل، ومراجعة التفاصيل والأداء، وتقييم الأخطاء وتقديرها، والعزم على عدم تكرا رها، ووضع ضمانات لذلك، وإشهاد الله سبحانه على هذا كله، فهل في الأمة أدنى أثر رائحة أو شبهة تقول بأنها تعرف الاستغفار بهذا المعنى؟!
أما إن شئت أن أشرح ما أفهمه من معاني التقوى فهذا يستغرق مساحة ووقتا أكبر، لأن تقوى الله سبحانه هي رأس الأمر كله، وهي الفيصل والفاصل بين نجاح وفعالية الإسلام كمنهاج وفشل المسلمين حين يجهلون أو يتجاهلون أو يتساهلون فيما ينبغي عليهم شأن التقوى!!
وكما تتحول أعظم الأركان وأعمق المعاني وأدق وأخطر المعالم في طريق وطريقة الإسلام إلى شيء ممسوخ على أيدي الجهابذة فإن قائمة الأولويات والموضوعات التي يتداولها الناس في بعض حواراتهم تبدو لي مضحكة وبعيدة كل البعد عما ينبغي أن ننشغل به أو نناقشه شكلا وموضوعا!!
والناس تنظر إلى حسن سيرة من يتصدرون المشهد، ومن يعتقدون بصلاحه منهم يقضون بصلاحيته، ليتصدر ويتصدى للقول في كل شيء تقريبا!!
رغم أنه لا حتمية تقول بأن كل صالح يمكن أن يكون قائدا أو مصلحا، أو أن كل من يحسن الكلام حتما سيقول شيئا ينفع أو يرشد أو يهدي وسط هذا التيه!!!! والناس تحب من وما يلمع!!
لا علاقة بين النية الحسنة التي قد يحملها قائل أو مستمع، وبين صواب ما يقول به، وأزعم أن هذه بديهية بسيطة، ولكن يبدو أنها غائبة، بحيث صارت جهات عديدة تستمد وجودها ومصداقيتها من بعض صلاح أفرادها لا من صلاحية برامجها أو أطروحاتها، ولأن أحدا لا يقيس هذه الصلاحية، وعموم الناس في غفلة وكسل عقل وغياب وعي تكون النتيجة خلل في النظرة للبشر وتقديرهم، وللأشياء وأهميتها، وللأعمال وهي حياتنا ذات الأولويات وقائمة النقاشات والمعارك والعناوين الفارغة من الجدوى، والعاطلة عن تقديم شيء يصحح، أو يبني بحق، أو يؤسس بمتانة لشيء أو لمستقبل!!!
يتبين لي أن أكثر من تسعين بالمائة مما تشغلنا به الصحف والفضائيات والتصريحات والأحزاب والجماعات والمؤسسات والخطابات المتداولة هي من قبيل اللغو مقارنة بما تشغلنا عنه، وتضيع وقتنا وجهدنا عن متابعته، أو حتى فتح باب النقاش فيه!!!
ولا قيمة كبرى للقول أو الزعم أو التأكيد على أن هؤلاء أو أولئك من أصحاب النوايا الحسنة!! وهم بالتالي يريدون الحرية، وينشدون النهضة، ويتكلمون عن العدل، ويرصون لنا قائمة الشعارات البراقة، وبمنتهى النية الحسنة!! والناس تحب ما يلمع، بغض النظر عن قيمته الحقيقية!!!
ومن غفلة أمتنا أن أغلب أبنائها يظنون النقد اتهاما للنوايا، أو طعنا في الصلاح، بينما غاية النقد وموضوعه وقضيته تتعلق بمناقشة الصلاحية، والفارق بينهما كبير كما أسلفت توا!!!
طبعا نحن محتاجون لإخلاص حقيقي، ومراجعة صادقة وعميقة يقوم بها كل واحد فينا لنواياه، وأنا أحتاج كثيرا، وأطلب بإلحاح الدعاء من كل أحد، وبخاصة الصالحين منهم، ولكن بعضهم ممن أطلب دعاءهم ربما لا يعجبني عقلهم، أو أخالف رأيهم في هذه المسألة أو تلك، وبعض السلف يقول: "من إخواني من أطلب دعوته، وأرد شهادته" وأعتقد جازما أن أمتنا تحتاج إلى الدعاء والإخلاص والنوايا الحسنة، لكنها تحتاج أيضا وبشدة إلى التقوى بمعناها العميق الشامل، وإلى العقل والتخطيط والعلم والبحث والحوار المتأمل الدائم، وإلى مصارحات ومكاشفات، وأفكار ومبادرات وشبكات وجهود كثيرة للبناء تستلزم النوايا الحسنة، ولكن لا تقتصر عليها!!
ويتبع >>>>> : على باب الله: ضحايا النوايا الحسنة: مشاركة
واقرأ أيضًا
على باب الله: رأسنا ونعالنا، معروفنا ومنكرنا/ على باب الله: المجرم الأخير!!!