قدم لي ابن صحفي متحمس تساؤلاته عن زيادة ظاهرة الانتحار في مصر مؤخراً، وفي نفس اليوم دعيت لمناقشة نفس الموضوع، في برنامج "الحياة اليوم"، ما الحكاية؟ تلفت حولي فوجدت أن من أعرف –حتى من أصدقائي المرضى– في حالة من "عدم الانتحار"، إما بفضل التفسخ، أو التبلد، أو الفرحة الكاذبة، أو تصديق ما لا يصدق (وعود الحكومة مثلاً) بالإضافة إلى جهود شركات الأدوية بتقديم حبوب الدغدغة والابتسام البلاستيك.
الأرقام التي استثارت الابن الصحفي الشاب، تقول أن عدد المنتحرين في مصر عام 2008 قد وصل إلى 14 ألفاً وفق تقرير المركز القومي للسموم، وإلى 15 ألفاً وفقاً لمركز التعبئة والإحصاء. ما لفت نظري أن الرقمين متقاربين، وهذا في حد ذاته، مدعاة للتصديق، لأننا نسمي هذا المنهج علمياً "المصداقية بالاتفاق"، ونعني به أنه إذا جاءتك نفس المعلومة من مصدرين مختلفين متباعدين (منهجاً، أو جغرافيا، أو تاريخاً)، وكانت هي هي تقريباً، فإن هذا في حد ذاته هو مدعاة لتصديقها. ومع ذلك لم أستسلم لهذه الأرقام الرسمية، صحيح أني لا أستطيع أن أنكرها أو أكذبها دون بحث لاحق يقول غير ذلك بمنهج آخر، لكني أضعها بين قوسين متأنياً متأملاً حتى نرى.
الأرجح أن هذه الأرقام تشير إلى عدد محاولات الانتحار المحكية من الفاشلين في إتمامه، وليس إلى عدد ما تم ورُصد وتأكد أهل المرحوم أو السلطات من أنه مات –فعلاً– منتحراً، حتى أن الاسم العلمي للفريق الأول (محاولات الانتحار) هو "الانتحار المزيف" Pseudo-suicide، ليس معنى ذلك أن كل من نجا من الانتحار هو مزيف أو مدع، ولكن هذه هي اللغة العلمية ولها دلالتها.
في البرنامج على الهواء، استضافوا سيدة فاضلة، سمراء، جميلة من الدقهلية، فقيرة بائعة ترمس في الصيف فقط، لها ثلاثة أولاد من أربعة مصابين بالصرع، لها مطلب أو وعد بسكن لأسباب إنسانية، ذهبت إلى المحافظة، واستجدت وارتمت على حذاء المحافظ تستعطفه، فمنعوها وجروها سحلاً إلى بعيد، وسبوها بما تيسر، فهددت بإلانتحار، ثم اندفعت إلى النافذة وقفزت من الدور الثاني، لكن ربنا ستر. استمتعت بالحديث معها قبل البرنامج، وقلت لها ما حضرني من اسمها، وضحكنا كثيراً ورجتني ألا أعيد ذلك على الهواء، وأن أكون في صفها فخشيت أن ينقلب البرنامج إلى مساعدتها مثلما اعتدنا، لكن المسألة أخذت مسارًا أعم.
الخلاصة أني اكتشفت غموضاً ولبساً حول ظاهرة بهذه الأهمية، فقلت أوضح بعض جوانبها فيما يلي:
أولاً: علينا أن نتعامل مع الأرقام خصوصاً الرسمية، وأحياناً العلمية، بحذر شديد.
ثانياً: علينا ألا نعزو ظاهرة بهذا التعقيد، إلى أسباب اقتصادية، أو كوارث عابرة.
ثالثاً: إن التركيز في مثل هذه البرامج على التعامل مع حالات فردية، ومحاولة حل مشاكلها واحدة واحدة، برغم ما يبدو في ذلك من لمسة إنسانية، إنما ينسينا أن المصيبة عامة وخطيرة، وهو أيضاً ينسينا حقوق من لم يتمكن من توصيل صوته للإعلام هكذا.
رابعاً: إن نوعية عقاب المنتحر من الله سبحانه، إنما تحمل رسالة لها دلالتها، حيث أن المنتحر لن يخلد في جهنم فقط، وإنما سيكرر فعلته (الانتحار) في النار، وكأن الله يبلغنا من خلال ذلك، أنه هو الذي وهبنا الحياة، وهو –الوحيد– الذي له حق أخذها.
خامساً: بالرغم من أن الله قد وهبنا الحياة، فكثير منا لم تتح له فرصة أن يكون له ما يميزه بشراً من كرامة وحقوق، وقد يقبع ذلك في عمق داخل المنتحر، فتصبح فعلته بمثابة تحصيل الحاصل.
سادساً: إن هناك أنواعاً من الانتحار شائعة عند ثقافات أخرى نحن لا نعرف عنها شيئاً، مثل "الانتحار الفلسفي" تفعيلاً لعدمية منظومة فكرية ترجح كفة التخلص من الحياة بقرار حكيم. وهناك الانتحار التكفيري، وانتحار "مسؤول" للاعتذار عن خطأ أضر الناس... وكل ذلك غير وارد في ثقافتنا، لا هو، ولا ما يعادله (ولو بالاستقالة).
سابعاً: إن العزوف عن الانتحار، اعترافاً بإرادة الله في خلقنا، هو إلزام لنا أن نحيا، وأن نحارب كل من يحرمنا من حقنا في إنسانيتنا، وإلا فالبقاء استسلاماً هو انتحار من نوع آخر.
ثامناً: إن من يريد أن ينتحر إيجابياً يمكنه أن يولد من جديد، يوجد ما نسميه المأزق الانتحاري أثناء العلاج الجمعي، وهو المأزق الذي يخرج منه المريض مختلفاً نوعياً، وتمر به أثناءه أفكار انتحارية، لكنه يخترقها إلى كيانه البازغ وكأنه انتحر بالتخلص من كيانه القديم، وهذا هو أشرف أنواع الانتحار، وهو معروض لمن يريد أن يشرف بأنه بشر يحيا فعلاً.
نشرت في الدستور بتاريخ 22-4-2009
اقرأ أيضا:
تعتعة... الآخرون / تعتعة: لؤلؤة غامضة وسط كومة قش مشبوهة!! / تعتعة: مايكل جاكسون، و.. باراك أوباما!! (1من2)