كالعادة فتحت الحاسب لأقرأ وِردي الإلكتروني (موقع مجانين، والبريد الإلكتروني)، وأنا أنظّم في ذهني بعض الأفكار لأكتب هذه المدونة...، وإذ بي أقف على مدونة الدكتور أحمد عبد الله (المجرم الأخير) فضحكت وقلت: كان يجب أن يكون معنا اليوم في نقاشنا، فهو يعزف على نفس الوتر!! ثم استعرت عنوانه لمدونتي هذه –فليسامحني- وسميتها (الجاهل الأخير)!
كان نقاشاً دار بيني وبين دكتورة في الفقه الإسلامي وابنة لعالم جليل -من كبار العلماء- من ذوات العقل الفذ والتبحر في العلوم، ويمكن القول: إنها لم تولد في هذا العصر ولكنها قادمة –بعلمها وفهمها وأخلاقها- من عام 200 للهجرة...
المهم: كان النقاش حول تعريف المكلف: (وهو البالغ العاقل الذي بلغته الدعوة)، ومؤدى هذا التعريف: أن الذي يفقد أحد هذه الأمور الثلاثة لا يكون مكلفاً ولا يعاقب على ترك الواجبات ولا على فعل المحرمات. فمن كان دون سن البلوغ لا يكلف، ومن كان فاقد العقل أو ناقصه لا يكلف، ومن لم تبلغه الدعوة فكان جاهلاً بالدين عموماً أو بالأحكام، لا يكلف بما لم يبلغه منها لقوله تعالى: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً))[الإسراء:15].
فأما البالغ العاقل فمعلوم، ولكن (الذي بلغته الدعوة) هو الذي كان فيه الأخذ والرد...
وحتى تكونوا معنا في النقاش سأوضح بعض الأساسيات في هذه المسألة:
- بلوغ الدعوة يكون بأحد أمرين: إما بأن يأتي العالم فيخاطب الجاهل مباشرة ويعلمه. وإما أن تشيع الأحكام وتنتشر في قوم من الأقوام بحيث يمكن لكل إنسان أن يطلبها ويسأل عنها ويعرفها ثم يعمل بها. فإن لم يقم هو بالطلب والسؤال كان مقصراً مؤاخذاً لا يعذر بجهله.
- على هذا لا يعذر بالجهل إلا أحد اثنين:
1- من أسلم حديثاً؛ لأنه لا يمكنه تعلم الأحكام دفعة واحدة، فهو مكلف بالمسارعة بالتعلم ولكن لا يؤاخذ على الحكم قبل أن يتعلمه، أما إن تكاسل وقصر في التعلم بعد أن أسلم فيؤاخذ على جهله.
2- من نشأ بعيداً عن العلماء، كمن يعيش حالياً في مجاهل إفريقيا لأنه لم تبلغه الدعوة ولا يتيسر له معرفتها... ويذكر في بعض كتب الفقه: أن المسائل الدقيقة التي يجهلها أكثر العوام يكون الجهل فيها عذراً...
فإذا جاء مسلم من أب وأم مسلمين يعيش في بلادنا هذه، وفي بيته تلفاز يشاهد فيه مئات القنوات الفضائية، وحاسب تعرض الشبكة فيه كل ما يخطر على البال وما لا يخطر، وحوله أهله وجيرانه وأصدقاؤه من المسلمين، فهذا لا يعذر إن قال: أنا لا أعرف أن الصلاة تحتاج إلى وضوء، أو أن ابتلاع الدواء يفطر الصائم، أو أن اللواط كالزنا تماماً...، فهذا مؤاخذ وإن لم يعلم؛ لتقصيره في لتعلم، وسيسأله الله تعالى يوم القيامة عن عصيانه كالعاصي الذي تعلم...
وكان ابتداء النقاش من جهتي حيث قلت: وما رأيك بالذي يعيش في بلاد المسلمين، فيتعلم بعضاً من شعائر الدين بشكل سطحي فيظن أنه تعلم ما عليه من الأحكام بدليل أن أمه وأباه مسلمين وهما لم يعلماه أكثر من هذا، ثم هو يظن مع هذا أن تعلم ما يزيد على ذلك من الترف العلمي الذي يتعلمه من يحب أن يكون (شيخاً) أو (صاحب دين) أما المسلم العادي فليس مطالباً بأكثر من هذا!!
وأكثر من ذلك: ما رأيك بالذي ذهب لطلب العلم فجلس إلى معلم جاهل –دون أن يدري- فزاده جهلاً إلى جهله، وهو يظن أنه قام بما عليه من طلب العلم؟!!
طبعاً: كان الجواب: ربما يكون هذا معذوراً في غير بلادنا كالذي يصله الدين مشوهاً. لكن مستحيل أن يكون في بلادنا جاهل معذور بعد انتشار الدعوة في كل مكان في البيت، في المساجد، في الأسواق... فكلهم مؤاخذ... ثم قالت: هذه التي تلبس بنطالاً ضيقاً إلى الركبتين ثم تضع غطاءً على رأسها وتسير في الشارع على أنها محجبة، أتقولين أنها معذورة لعدم علمها بالحجاب الشرعي؟!...
فكان جوابي: أرأيتِ وجوب طلب العلم، أليس حكماً شرعياً؟ قالت: بلى. فإذا لم يعلمه المسلم: كيف نطالبه به؟؟ من المؤكد أننا إذا طالبناه، سيكون الأمر على النحو التالي: سيتوقف قيامه لطلب العلم على معرفته أن طلب العلم واجب، ومعرفة أن طلبه للعلم واجب متوقفة على طلبه للعلم!! وهذا ما يسمى بالدَّور وهو أمر باطل! (الدَّور: أن يتوقف حصول أمر ما على حصول أمر آخر، وهذا الأمر الآخر متوقف في حصوله على الأمر الأول. وهذا يجعل حصول الأمرين مستحيلاً).
وظل النقاش دائراً على هذا النحو بين أخذ وردّ: هي تبيّن لي الانتشار الواسع للأحكام وإتاحة الحصول عليها بيسر وسهولة في كل مكان في أيامنا هذه، وأنا يشغلني فكرة: (ماذا إذا لم يكن عالماً أن عليه أن يعلم؟ وماذا لو ظن أنه يعلم ما عليه؟)...
طبعاً، كان مجرد نقاش علمي وله ذيول.... لكن لا أحد يستطيع أن يعلم حساب أحد عند الله تعالى، ولا أحد يستطيع أن يجزم بعذر الجاهل في بلادنا، ولا يمكن لي –بل لا يحق- بهذه التساؤلات أن أعطي فتوى معاصرة للعصاة والشاردين!! ولكني أعود فأرثي لحال الشباب الذي يوصف بالضياع، والتقصير، وقلة الفهم، والركض وراء الشهوات، ووو...، -وهو كذلك!-...
ترى! من الذي أوصله لهذه الحال؟؟
ترى! من المعاقب؟ هو؟ أم أبواه؟ أم معلموه في المدرسة؟ أم الدعاة؟ أم التلفاز والحاسب؟!!!
الكل مقصر ولا ريب!
- هو: بتعطيل عقله، وعدم سماعه لما يقال هنا وهناك، وقوله: وجدنا آباءنا كذلك يفعلون!...
- وأبواه: بتقصيرهما في الأمانة التي حمَّلهما الله إياها...
- ومعلموه: الذين جعلوا التعليم مصدر رزق وحسب، وانعدمت مهمتهم في التربية... ولعلهم هم والآباء كانوا ضحيةً لنفس الجريمة، فمن أين لهم أن ينقذوا أبناءهم وتلاميذهم؟!
- والدعاة: وهؤلاء، العالم المتبصر فيهم قليل لا يكاد يفي بالغرض، والباقي تأخذه العاطفة والحسرات على ما يرى ويسمع، فدعوته (ضربة حظ)، فإما أن يحسن التصرف صدفة، وإما أن يفسد من حيث يظن أنه يصلح...
- والتلفاز والحاسب: أكيد أن الحق كله عليهما!! إذ هما المربي الأوحد للأجيال! أما من يديرهما ومن لا يُرَشَّد استخدامهما، فهو بريء، كبراءة الذئب من دم يوسف!!!
وبعد هذا كله ندعو فنقول: أخذ الله هذا الجيل كم هو سيء!!
هذا الجيل المسكين، الضحية، الذي حرم أجمل شيء في الحياة: إعمال العقل، ووضوح الهدف تحت مظلة الصلة بالله تعالى...
فمن أين نبدأ يا رعاكم الله؟؟ هل نصل للدَّور مرة أخرى؟؟
لا بالتأكيد...، ولكنها صرخة ألم أبعثها لتسمعها الأجيال، وهمسه حبّ أهمسها في آذانهم لتسري دافئة إلى قلوبهم، فأقول: أنتم بشر..، أنتم أكرم خلق الله...، أنتم شيء يغير الكون -لو تدرون- ، أنتم عقول تفكر وتبدع...، وأيدٍ تبني وتعمل...، وقلب يخترق السماوات فيتصل برب السماوات ويصنع المعجزات.... فلا تضيعوا كل هذا وتجعلوا من أنفسكم ضريبة تدفعونها عن جهل من قبلكم...، أو دمية شوهاء لا تسمع ولا تبصر...، ألأن من قبلكم أخطأ، أنتم تزجّون أنفسكم في النار؟!!
قد خلقتم لتكونوا خليفة في الأرض، فلا تجعلوا من أنفسكم متسولاً يتسكع في الشوارع...
قد خلقتم لتعرفوا الله... لتعمروا الدنيا... لتكسبوا الدنيا والآخرة...
ما ذنبكم لتكونوا الضحية؟ لمَ ترضون أن تكونوا الضحية؟
قوموا وارفضوا هذا الواقع وأكرموا أنفسكم، فضعوها حيث وضعها الله...
تعلموا... وفكروا... قبل أن تندموا... ثم حلوا لي المعضلة التي أنا فيها: هل أنتم معذورون يا ترى؟؟
بانتظار جوابكم....
ويتبع >>>>>: الجاهل الأخير مشاركة
واقرأ أيضاً:
ليتكم تدرون.... / غزة / مهلاً... أنا عندي مشكلة أيضاً...