كان يوما حارا كما هو متوقع في مثل هذا الوقت من العام!!
بمنتهى الهمة والشعور بالمسئولية غالبت نعاسي وحرارة الجو وسافرت لأقوم بواجب التدريس في الجامعة التي أعمل بها.
وصلت إلى المدرج في تمام الوقت المحدد فلم أجد أحدا!!
المبنى كله خاوي تقريبا إلا من طلاب متناثرين على السلالم، وبعضهن في مصلى الفتيات بانتظار صلاة الظهر، أو في نسمة هواء مروحة تخفف حر يونيو، ورطوبته!!
جلست في المدرج أتأمل الجدران والعبارات المكتوبة: ملصقات وشعارات بعضها واضح، وبعضها تعرض لمحاولات إزالة أو تشويه مثل هذا الملصق البرتقالي المكتوب عليه:"أنا أكره اليهود"، ولعله يقصد الصهاينة فليس بيننا وبين اليهود كأصحاب دين أية عداوة أو كراهية، اللهم فيما يتعلق باحتلال بعضهم لفلسطين، وبطشهم بأهلنا هناك!! وهذا خلاف على أرض وحقوق وليس على اعتقاد أو دين!!
ملصق آخر عن صلاة الفجر: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"، ويتضمن أيضا "أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل".. اللهم لا تحرمنا منها يا رب، وملصق قديم نسبيا من أيام حملة "أوقف المخدرات.. غير حياتك"، وهذا ملصق يقول: ترى ماذا كتب في صحيفتك اليوم؟! لك أم عليك؟!
ملصق عن الدعاء عند لبس الثوب!! هل يخلع البعض ملابسه هنا؟!!
ودعاء السفر أيضا، ملصقات كثيرة تحمل صور المسجد الأقصى، ومسجد قبة الصخرة، وملصقات أخرى كثيرة تحض على الحجاب، وتحذر من عقوبة عدم ارتدائه، وملصقات عن فضل قراءة القرآن عامة أو سور معينة منه مثل سورة الملك أو الكهف أو فاتحة الكتاب.
وعلى لوح الشرح كتب أحدهم: "إستغفروا ربكم إنه كان غفارا" وكتب آخر " فسيرى الله عملكم ورسوله"، وكتب ثالث: لا تنسى ذكر الله، و"فداك أبي وأمي وروحي يا حبيبي يا رسول الله.. انصر نبيك باتباع سنته!!
ملصق قديم يقول: ترقبوا المفاجأة.. العرض السينمائي الأول، وهو خاص بفيلم عن الانتفاضة.
أما أروع ملصق وأكثرها إثارة للتأمل فهو ذلك الأخضر الذي يفتتح بآية: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ...."(النور:55) ثم يستطرد الملصق برسوم متقنة معلنا أن القرن 21 هو قرن الإسلام!!
خمس طالبات جئن على استحياء بعد الموعد المحدد لبدء المحاضرة بنصف ساعة، وبعد أن انتهيت من الشرح لهن عدت للتأمل في أحوالنا الجامعية والعامة!!
فكرت أن تحقيق الالتزام، والوفاء للإسلام، ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم يفترض أن يكون بمعاملات كثيرة تبدو غائبة عن حياتنا في مقابل أو إلى جوار عبادات تبدو منتعشة قليلا، وآداب في السلوك الاجتماعي تعرض بعضها للانتقاء والتضخيم حتى يكاد المرء يعتقد أن عموم الإسلام هو ارتداء الحجاب، وذروة سنامه هي النقاب!!
وهذا الخلل الواضح في ترتيب الأولويات وإعطاء الوزن النسبي العادل للأوامر والوصايا والفروض، والخلط بين المتوسط والمهم والأشد أهمية وسط جهل منتشر بكيفية صعود هذا الدين أول مرة ليقود العالمين، ولينتشر في حياة من يعتنقه صفحات من نور خرجت بهم من فوضى وظلم ووحشية وتخلف عاشوها قرونا ثم تبدلت أحولهم في سنوات ليس بارتداء الحجاب أو ترديد الأوراد، أو شيوع بعض مظاهر الدين، وإنما حين كان كل هذا في منظومة واحدة كبيرة وفعالة تضم أخلاق التمدن، وخطط النهضة، ومستويات من الفعل الراقي، والجهد المتواصل في فهم الدين والدنيا، والإبداع في عمران الأرض على هدي من إرشادات السماء، وما لم ينتبه المسلمون إلى هذا السر الظاهر ـ لمن يفقه منهم ـ فإن دينهم الذي هو هداية كله ونور وعزة وعظمة ونجاح سيتحول إلى عبء ثقيل، وقيد محكم، وغشاوة تحول بينهم وبين رؤية العالم، وإصلاح أحوالهم فيه، وهو ما نعيشه الآن من مأزق كارثي طال بنا ظلام ليله الدامس!!!
أساطير كثيرة ومتنوعة خلقتها هلاوس وضلالات وضغوط نفسية واجتماعية مختلطة بديباجات دينية، وصارت تؤسس لأفكار ورؤى تحركنا بوعي أو بغير وعي، حتى صار الجهر بصواب أو أصول المسار والمقاصد والسنن الألهية ضربا من العبث، أو يحسبه جهل الجمهور التائه هذيانا أو تخبطا أو هرطقة من كثرة ما ألفوا عادات وتقاليد وموروثات متخلفة يحسبونها الدين، وما هي إلا نقيضه ونقضه ونواقضه!!!
فكيف يمكن تفهيم المسلمين أن بعض ما يمسكون أو يتمسكون به بوصفه دواءا ليس سوى بعض الداء؟! وأن ما يتناولونه ترياقا ليس إلا بعض السم القاتل!!
كيف يتوازن المسلم المعاصر بين ضغوط الخارج وخلل الداخل وينظر بحكمة وروية، ويتعلم بعمق وبرفق ليكتشف أن قائمة أولوياته، وبرنامج عمله، وخارطة طريقة هي مما يضلله لا مما يهديه!!
كيف يفهم المسلم الصلاة بحق لتعود عمود الأمر، ويعيش الجهاد بصدق واستمرار فيكون ذروة سنام الإسلام، كما هو في الأصل، وكيف يستوعب ويتشرب قول "لا إله إلا الله" فتصبح شهادة يرى من خلالها العالم، وينطلق منها في كل حركة وسكنة وقول وفعل؟! وكيف يقترب من رجال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهد ويشاهد ويفهم ويعمل، وينصره باتباع سنته حقا، بأبي هو وأمي، هذا السهل الممتنع، والبسيط المذهل، وهو قد كان ـ وهو فينا ـ ألطف الناس، وأرقى الناس، ملتحيا وعابدا، ذاكرا وصائما، ولكن اختصاره إلى هذا ظلم شديد لما حمل من رسالة واسعة وعميقة، وجذرية في تغييرها وأهدافها!!
كيف كان صلى الله عليه وسلم في فهمه للجهاد، وبذله للجهد، وسمته في الجد؟!
الجهاد والجهد والجد: تقارب لغوي له معنى في الدلالة، فأين نحن من هذه المعاني؟ أين نحن من الجهاد، من الجهد بأنواعه، ومن الجد ومن الجدية؟!
أين وكيف نعيش هذه المعاني الأساسية التي هي ذروة سنام الإسلام؟!
ما هي ممارستنا للجهاد وللجهد وللجد وللجدية صغارا وكبارا؟!
ويمكن القياس على ذلك في التفكر والفكر والتفكير والتأمل؟!
ومثل هذا في الشورى والاستشارة والمشاورة والمشورة!!
كيف كانت أوضاع المرأة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بعد جاهلية طويلة مظلمة؟ وكيف انتكست عودة إلى الجاهلية بأشكال أخرى، وأين نحن من سنة الرسول في ذلك؟!
من مجتمع شاركت المرأة في بناءه وحمايته والدفاع عنه بالعمل وحتى بالسلاح، إلى مجتمع يضغط على النساء فتنساق جموع منهن للضغوط، أو تتمرد جموع أخرى على المنظومة كلها كفرا بها، وتبرما وضجرا، وانخداعا ببريق حضارات وثقافات ما تحررت المرأة فيها أو بلغت ما بلغت إلا بهدي الإسلام في منطلقه الأصلي، وممارسات رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم!! ما لم يتمكن المسلمون من إعادة اكتشاف الإسلام الذي يقولون أنهم يحملونه للعاملين، بينما هم الأولى بفهمه واستعادة خرائطه ومساراته السليمة الأصلية!! وما لم يبذلوا فرديا وشخصيا وعميقا وطويلا جهودا دؤوبة لتحقيق هذا!!
ما لم يتعرف المسلمون على المنكرات والبدع والأخطاء والثغرات والفجوات التي تفصلهم عن صحيح الإسلام في منطلقاته ومبادئ عملهن وأسس فعاليته وبخاصه، وما لم يتحول الإسلام بالتالي إلى طاقة فاعلة في التفكير والعمل والترابط والانسجام الاجتماعي، ومرونة التعامل مع متغيرات العصر، وعمق البحث والإستنباط في الشرع عن إجابات متجددة لمستجدات وإشكاليات وتساؤلات كثيرة تجتاح واقعنا!!
ما لم يستشعر كل مسلم مسئوليته الشخصية عن هذا الدين، وكف عن الشكوى والهتاف بالشعارات الفارغة من المضمون، وتحول إلى عمل اليوم والليلة، والإبداع في سد ثغرات التقصير والخلل في حياتنا ما استطاع إلى ذلك سبيلا، محرضا من حوله على الإيجابية، ومشجعا كل من يشعل شمعة تبدد بعض الظلام، وما لم نكف عن لوم الآخرين، والتباكي على انهيار الأوضاع، فلا أظن أن مستقبلا أفضل ينتظرنا!! والله أعلم.
واقرأ أيضًا
على باب الله: المجرم الأخير!!!/ على باب الله: دم بارد.. دم رخيص