كثيرا ما أجد نفسي متنازعا بين لذة الهواية وألم الاحتراف في موقفين... العاشق للأدب حتى النخاع والملتزم بالطب بكل أخلاقيات المهنة وحتى أبرئ نفسي مما يعذب نفسي قررت أن أقنع بأن القصور في مجال الأدب هو قدري الذي ساقني مرتين من كلية الآداب عودة إلى كلية الطب في جامعة الخرطوم بعد المراوحة تحت ظلال الأشجار التي تغطي شارع الكلية ولسان حالي يقول في (نقوش على البحر):
خلقت لكي أقول الشعر..
تصبح حرفتي في السوق.. فن صناعة الكلمات
ولدت وفي يدي قلم من الأبنوس مملوء بحبر دواة
طريق الطب مكتوب على لوحي..
لأمشي فيه رغم تعدد الطرقات!!
ولأن الطبع يغلب التطبع فقد ظلت غريزة الشعر دفينة في أعماقي متجزرة في طينة أرضي تنمو من الداخل وكثيرا ما يحدث لي عند دعوتي للمشاركة في أمسية شعرية أو ندوة أدبية تتطلب مني حفظ النصوص التي لا يتوفر لها الوقت عندي مما يحملني على الاعتذار الذي لن يقبل التكرار وبين ضرورة المشاركة التي تحمل وزر المخاطرة وحرج السؤال في طلب قصيدة لا تسعفني فيها الذاكرة فأعود أنبش صفحات الديوان الذي أحمله معي دائما وأقول عنه (عصا موسى) أتوكأ عليها وأهش بها على ذاكرتي ولي فيها مآرب أخرى!!
والمستمع دائما ما يتوقع من الشاعر أن يكون مستعدا لتلبية رغباته ليستمتع بالأمسية وهذا حقه ولا يهمه أن يكون الشعراء المشاركون من خلفيات مهنية متباينة أو تخصصات مختلفة لأن مجرد قبول الدعوة يعني إبرام عقد والعقد شريعة المتعاقدين، وحتى في المؤتمرات الطبية في الداخل والخارج كثيرا ما يطلب مني الزملاء قراءة بعض القصائد وهم في هذه الحالة لا يتعاملون معي كزميل يحمل نفس هموم المهنة ولكن كصاحب هوايات أخرى ينبغي أن يوفر لها قدرا من الوقت للحفظ والتجويد ولذلك وجدت معذرة (عصا موسى) أفضل بوابات الخروج من هذا المأزق ربما لأن هذه الشريحة من العشاق يسهل التعامل معها لأنها تدرك صعوبة المعادلة في إحداث توازن بين الطرفين أو السير بهما على قدم المساواة!
ومن المواقف الطريفة الأخرى حدث وأن دعانا أحد الأخوة إلى حفل عائلي يغني فيه صديق الطرفين الفنان الراحل عثمان حسين فطلب منه أن يقدم لنا أغنية (الوتر المشدود) وهي من الأغنيات التي لم تسجل حتى الآن وتم تلحينها وتقديمها في حفل غنائي كبير في (قاعة السمكة الذهبية) في أبو ظبي في عام 1988 م. وبما أنها من كلماتي فقد طلب مني أن أقول كلماتها مشاركة مني في المناسبة وأسقط في يدي لأنني لم أكن أحفظها وكان موقفا محرجا وأكبر بواعث الحرج أنني وعثمان كنا الوحيدين الذين يعرفان قصة القصيدة فلم يصدقوا ما بين من ظن أنني أفتعل الموقف أو أستنكف المشاركة وما كان بوسعي أن أكتبها في قصاصة أقرأها مثلما فعلت أخيرا في البرنامج الإذاعي (منازل القمر) مع الشاعرة روضة الحاج وقد أعددت نفسي مسبقا للمفاجأة بعد أن تعلمت من التجربة.
لقد أردت من هذه المقالة أن أشرح موقفي بأثر رجعي من هذه الظاهرة التي بدأت أتكيف معها وبدأ يتقبلها الأقربون على علاتها حتى إشعار آخر وأرجو ألا تبعث على الملل لأنني قصدت أن أشرح حجم معاناة المزاوجة بين لذة الهواية وألم الاحتراف في حياتنا المعاصرة في طغيان فكرة التخصص الدقيق على موسوعية الثقافة الخاصة والمعرفة العريضة التي كان يتميز بها الجيل السابق من الشعراء الأطباء أو الأطباء الشعراء الذين أجادوا فن الشعر حفظا ونظما وفن الطب شكلا ومضمونا.. والآن أصبح ضروريا أن يتقلب جانب الحرفة على الهواية والصنعة على الإبداع والتخصص الدقيق داخل إطار الثقافة العامة؛
وفي عهد التخصصات الدقيقة حين أصبح الشعر نفسه يخوض معركة الانعتاق من بحور الخليل بن أحمد من المقفى إلى المنثور والانفلات من ديماجوجية الفكر الاشتراكي وطوبائية الأدب الرومانسي، والخروج من عباءة الهواية في الأصل إلى جلباب الاحتراف في الإبداع داخل أروقة الكليات المتخصصة في الجامعات.
والآن وأنا أقف في مفترق الطرق بين لذة الهواية وألم الاحتراف أشعر أنني ينبغي أن أنفق ما تبقى من العمر في إعادة قراءة مؤلفاتي القديمة في الشعر والأدب وترتيب علاقتي به وإعادة اهتمامي إليه لا خصما من إسهاماتي المهنية ولكن إضافة لها.. فهو ليس هواية فقط وإنما رسالة بدأت بها حياتي وكلفتني كثيرا من المعاناة قبل اختياري طريق الطب.. وله دور كبير ومقدر وقادر على إحداث تحولات جذرية على جميع الأصعدة نحن أحوج ما نكون إليها في الوقت الحاضر وأكثر من أي وقت مضى...
وحتى لا تعوزني حجة (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر) تسعدني زيارتكم الموقع الإليكتروني.