جاكسون: الجسدُ المبدِع، والألم الراقص!! (2من3)
اختلط عليّ الأمر: كنت أشاهد كلمة "الرئيس أوباما" في لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، كما جاءتني على "الميل"، (ربنا يخليه!) فيحضرني خطابه في جامعة القاهرة، يا خبر! هل "هو هو" نفس الشخص؟، وهل "نحن نحن" نفس البلهاء؟.
في نفس الوقت، كنت أتعرف على مايكل جاكسون، وهو يرسل مشاعل الألم إلى كل هذا الوعي الجماعي ليتحرك، نحو تغييرٍ ما، فنغير العالم معاً، ثم إني رحت أراجع تاريخ حياته، وأتأمل لون بشرته، وأتملّى في صورته الذكورية الأنثوية، وأحاول أن أتفهم انحناءات انحرافات سلوكه، فجعلت أتساءل أيضاً: أهو هو، أم نحن الذين اعتدنا أن نختزل الإنسان إلى ما نريد ونتصور؟.
من أسهل السهل أن ينبري أحد المختصين أو الهواة من الدراميين أو الإعلاميين الشطار، ويطلق تشخيصاً نفسياً يحل هذا التناقض: ربما ازدواج الشخصية، وربما الفصام، وربما الشخصية البينية... إلخ!! الكائن البشري أرقى وأعقد وأجمل من أن يختزل إلى مثل ذلك، ولا يجوز أيضاً أن يختزل إلى شر وخير، إلى غرائز وأخلاق، بل وحتى: إلى امرأة ورجل، هذا الاختزال لم يعد مناسباً لمرحلة المعرفة الراهنة، لم يعد ممكناً أن نفهم الطبيعة البشرية من خلال هذا التصنيف المسطح بين الطيب والخبيث، بين البراءة والتوحش.. إلخ. ثم إن هذا الاستقطاب قد امتد مؤخراً إلى عالم السياسة عن طريق هذا "الدبليو بوش" حين راح يصنف محور الشر ويحدد محل إقامته في مقابل محور الخير الذي يمثله هو وبطانته وتابعيه بما في ذلك قاتل مروة والمتفرجين عليه داخل المحكمة عيني عينك.
هذا الاستقطاب، الذي تدعمه أغلب النظريات النفسية التقليدية (منها التحليل النفسي الفرويدي) هو أعجز من أن يقرأ النفس البشرية بما هي، فرحت أستلهم الإبداع: فحضرتني رواية دكتور جيكل ومستر هايد (1886) للأديب الأستكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، ورواية صورة دوريان جراي لأوسكار وايلد (1891) وخلود جلال صاحب الجلالة (في ملحمة حرافيش محفوظ)، وهو يستعمل السحر يقاوم به الزمن ظاهراً في حين يتحلل من الداخل، حتى يقضي في حوض البهائم جثة ملقاة بين الروث والعلف، ثم شممتُ رائحة بعيدة من نهاية رواية زوسكند "العطر"، وأكلة لحوم البشر تلتهم "غرينوي"، وهي تتجشأ عظامه (حبّاً!).
قرأت ظاهرة جاكسون من خلال "صورة دويان جراي" مع قلب الأدوار: الصورة كما رسمها أوسكار وايلد هي التي ظهرت فيها علامات تقدم العمر، وبصمات الشر، أما ما وصلني في حالة جاكسون فكان العكس، فقد رأيت جاكسون "الشخص" يمثل الصورة التي تظهر فيها تشوهات وجوده، أما جاكسون "الأصل" فوصلني أنه حقيقته الإنسانية الرائعة التي وهبها للناس على المسرح بكل طاقته المبدعة الثائرة المخترقة الفطرية، جاكسون كان "أصلاً" على المسرح بحلمه، وأمله، وألمه، وبراءته، وقوته، فاحتاج منه ذلك أن يطلق حركية آلامه بما هو فوق طاقة أي بشر فرد، وحين كان يعود إلى نفسه شخصاً (الصورة!!) كان لا يستطيع أن يلملمها فيظل متألماً بما لا يطاق، فيدفع الثمن خطأً وصواباً، بكل ما أحدثه في جسده وشكله وجنسه وعلاقاته، وحين لم تحتمل هذه الصورة = الشخص- كل هذا الألم والنبوة والحلم والعطاء، تشوهت بالأوهام الطبية والتدخلات الجراحية العشوائية والآلام الجسدية والنفسية، فالمسكنات، فالموت.
الصورة في حالة أوباما هي صورة شاب بريء أسمر رشيق ذكي حاضر واعد، ولا مانع من استعمال بنتيه وزوجته، بسمارهن الأخّاذ، كعوامل مساعدة لمزيد من تجميل الصورة، أما الأصل المختفي وراءها فهو كل ما يساهم به فيما يجري من تحيز واستعلاء وقتل وتمييز واستغلال... إلخ. (عكس جاكسون تماماً).
جاكسون "شخصاً": دفع ثمن هذا التباين بين الأصل والصورة، لكننا نحن –عبر العالم– الذين سوف ندفع الثمن في حالة أوباما إن لم ننتبه في الوقت المناسب إلى الطريق المناسب.
نهايات أبطال الروايات التي حضرتني تكتمل بأن نتذكر نهاية "صورة دوريان جراي"، حيث المشهد الأخير –بعد الطعن– هو للخادم حين وجد صورة لسيده كما عرفه شاباً نضراً.. وبجوارها كهل هرم قبيح الهيئة يرتدي خواتم سيده.
هل هذا الرئيس أوباما هو صورة شابة بريئة رشيقة سمراء تخفي وراءها الإمبراطورية الأمريكية البشعة العجوز، فقدموها لنا ليخفون بها كل جرائمها وقسوتها وجبروتها؟ هل سننتظر القضاء والقدر ليختار لنا إحدى هذه النهايات السالفة الذكر؟ هل سنسكت حتى نتحول إلى أكلة لحوم البشر يأكل بعضنا بعضاً تحت اسم حب مزعوم، وحرية ملتبسة، وحقوق متحيزة؟
أم سننتبه إلى حقيقة الصورة فنمزقها مبكراً حتى يظهر الأصل من ورائها فنواجهه بما ينبغي قبل الكارثة؟.
نشرت في الدستور بتاريخ 15/7/2009
اقرأ أيضا:
تعتعة: أنفلونزا الخنازير: بين الإرعاب والإلهاء...!!! / اختزالٌ لا يليق برمضان وصومه! / تعتعة: الفجوة تتسع بين الحكومة والناس!!