يقولون إن الطب حرفة أصحاب الفراسة فلابد أن يكونوا ذوي نفوس تستدل بالأحوال الظاهرة على الأمور الباطنة ويستدلون على صحة هذا الرأي بقوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) (الحجر:75) وقد روى البخارى في الطب (ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء) صدق رسول الله الكريم، ويقول أهل الحرفة أن الطب (علم وفن) فاصطلاحا الطب علم يبحث في بدن الإنسان من حيث الصحة والمرض ويدرس وظائف مليارات الخلايا المكونة لنسيج أعضاء الجسم، وموضوعا فالطب فن لا من حيث عنايته بالنفس والجسم معا بل من حيث قوة البحث في تفسير علاقة اضطراب الوظائف العضوية باعتلال الصحة النفسية والربط بين الموضوعين..
والطب فن من حيث ضرورة المعرفة بفن التعامل مع حقائق المختبر ولغة الأرقام في الوصول إلى صورة حقيقية عن سبب الآلام ومصدر الأوهام.. والطب فن في تعلم ترتيب الأولويات في تصنيف المعلومات حسب أهميتها في كل حالة على حدة, وكالجدل القديم الموروث بين أنصار الوراثة والبيئة في الدراسات البيولوجية الأخرى فقد نشأ حوار جديد ومدارس فكرية معاصرة بين أنصار الطب كعلم يعنى برصد وتسجيل وتفسير العائد البيولوجي (.......Biofeed Back) من محصلة العلامات المرضية والفحوصات المختبرية وبين أنصار الطب كفن يعتمد على نظرة فلسفية ذاتية في ترتيب الحقائق في شكل دائرة ضوء تسلط من عدة جوانب على المريض كنفس وجسم ومحاولة الوصول إلى أكثر العوامل تأثرا بالحقائق العلمية الموجودة, ورغم أن الازدواجية في التطبيق تبدو غير منطقية إلا أن هناك فئة من كبار الأطباء يرون أن الفحوصات والتحاليل الطبية هي العامل الموضوعي الحاسم في تشخيص الحالة بينما يرى فريق آخر في نفس المكانة العلمية الرفيعة أن حصيلة الفحوصات ما هي إلا مجرد مؤشرات لاحتمال وجود خلل عضوي أو وظيفي في الجسد أو النفس أو كليهما, وأن الوصول إلى التشخيص المناسب لا يعني بالضرورة السير في اتجاه بوصلة الكمبيوتر باعتباره المؤشر الأساسي في رحلة العلاج.
إن التقدم التقني المتمثل في (مكننة) الحياة جعل الطب في بعض مجالاته يتعامل مع المريض كالسيارة التي تدخل ورشة المصنع للفحص والصيانة تمر على عدة أجهزة قياسية مثبته على لوحات إلكترونية ودوائر تلفزيونية مغلقة وأجهزة رسم وتخطيط من تسجيل الاسم والرقم للمريض مرورا بفحص أعضاء الجسم واحدا تلو الآخر حتى نهاية السير المتحرك في خطوط الاختبارات حيث يعطي الحاسب الآلي صورة متكاملة عما يدور بداخل الجسم وقد يعطي التشخيص النهائي قبل أن يضع الطبيب يده على المريض... وهذا الجانب التقني في مقابل المعاينة الإكلينيكية.. صورة الطب كعلم وفن..
أما صورة الطب كفن فهي لغة الحوار الداخلي (Dialogue) بين حواس الطبيب وإحساس المريض وهي أهم مرحلة الاختبار التي توضح ماذا يعني المرض لصاحبه؟ ما قيمة الألم عنده وكمية الأمل لديه؟ ولماذا جاء في هذا الوقت بالذات بهذه الشكوى بالذات لهذا الطبيب بالذات؟ لماذا تدور نبرات صوته وتعابير وجهه وجملة انفعالاته حول جانب لا تنعكس أهميته في تصنيفات الكمبيوتر بينما يصرف النظر عن وعي وإرادة عن شكوى تحتل الصدارة في فحوصات المختبر؟ لماذا يطيل الشكوى عن آلامه القاسية من الصداع رغم علمه المسبق لسلبية الاختبارات في هذا الاتجاه بينما يصرف ذهنه ووعي الطبيب عن أوجاع مزمنة تطل برأسها في قائمة كل الفحوصات.. لماذا؟؟؟
كتاب (مقالات مختارة بين الطب والأدب)
ص 30 الطبعة الأولى 1990م
واقرأ أيضاً:
لذة الهواية.. وألم الاحتراف