قبل نحو أربعة أشهر ُدعيت إلى إلقاء محاضرة في منتدى الُعميرة الثقافي في محافظة (رجال ألمع) بعنوان اخترتُ أن يكون: (خطايا ثقافية)، ورأيت أنه قد يكون من المفيد نشر أبرز الأفكار التي ُطرحت فيها. وقبل استعراض بعض الخطايا الثقافية لعله من الملائم الشروع في تحليل العنوان (خطايا ثقافية)، ففي البداية: لماذا (خطايا)؟
للخطايا معان تلائم الأفكار المحورية التي أروم مناقشتها وربما توريطكم معي في إنضاجها ودفع بعض تكاليفها، فالخطايا -وهي جمع خطيئة- ذات دلالات متعددة في إرثنا الديني واللغوي ومن ثم الثقافي، والخطايا -بشكل عام- مثقلة بحمولات سلبية كثيفة، فمنها أنها تشير إلى (سيئات كبار) يقترفها صغار القوم وكبارهم، كما أنها تحمل معنى (الخطأ العمد)، وفيها بذور (مخالطة الخطأ) وعقد تحالف أبدي أو شبه أبدي معه؛ في سياق تجهد فيه الخطايا لأن (تخفي معالم الخطأ) وتتنكر لوجوده أو حدوثه أو صناعته، غير أنه ثمة حمولة إيجابية للخطايا تدفعنا إلى التعاطي معها وفق منظور أكثر تفاؤلاً، ذلك أننا لا نكاد نطيق ذكر (الخطيئة) وتدنيسها الا وهي مقترنة ب (التكفير) وتطهيره، مما يفتح آفاق الأمل بخلاص الذات من مكبّلاتها ومخفّضات فعاليتها. تلك كانت مقاربة مكثفة للخطايا، فما الثقافة؟
لكي نتجاوز الإشكاليات الكبيرة في مفهوم (الثقافة) فإنه من الضروري أن نوجّه تحليلنا للثقافة بما يقربنا من موضوع (الخطايا)، وفي ذلك الاتجاه يمكننا القول: إن الثقافة تمنح الإنسانَ أوراقاً بيضاء ليدوّن عليها ما يشاء، فالثقافة لا تخلق نفسَها بنفسِها، إنما هو الإنسان الذي يوجدها وفق منظومته العقدية والفلسفية والقيمية وطرائق تفكيره، غير أن الثقافة ليست مجرد مخزن للأوراق التي ُيراكمها الإنسان في أدراجه وزواياه، ولكنها كائن يتشبث بأسباب الحياة كلها، صحيح أن الإنسان هو الذي يغذيها ويرعاها في البداية، غير أنها ما تلبث أن تتوفر على مصادر أخرى للغذاء، فهي تتغذى لتصبح أكبر وأكبر، وتتحرك لتمرّن مفاصلها، وتشعل صراعاً أو حرباً مع هذا أو ذاك وتطفئ ذلك متى غنمت بحصتها (العادلة)، وهي تمرض غير أنها لا تموت... كل هذا يعني أن الثقافة (كائن حي) خرج من قمقمه! ولكن الثقافة -مع ذلك- تبقى في محيط سيطرة الإنسان، فهو المغذّي الرئيس لها، ولكنه أي (إنسان) هذا الذي نتحدث عنه؟ هذا خيط جيد، قد يوصلنا إلى شيء ذي بال.
هنا نكون أمام لوحة تعكس لنا احتمالات المقصود بذلك (الإنسان) المشكّل للثقافة: إنسان الماضي - إنسان الحاضر، الإنسان الفرد - الإنسان الجماعة، إنسان الداخل (الأنا) - إنسان الخارج (الآخر)... ثم هل كل ما يَصدرُ عن (الإنسان) يصبح ثقافةً؟ الحقيقة أن أولئك جميعاً يسهمون في تشكيل ثقافتنا على نحو ما وبقدر ما، من حيث نشعر أو لا نشعر، نقدّر أو لا نقدّر. ماذا يعني هذا؟
يعني مزيداً من التعقيد، لكن دعونا نحتال على هذه المسألة بمحاولة تبسيطها كما يلي:
الثقافة تلتقط كل شيء، غير أنها لا تبقي كل شيء في جوفها، فهي لا ُتبقي غير المفردات التي (تراكمت) أو (تقادمت) على أقل تقدير، فأضحت متماسكة بطريقة يمكن تخزينها ونقلها في وسائط متنوعة: ِحكم - أمثال - شعر - قصص - تجارب - نكت ... وهنا ينبغي الإشارة إلى حقيقة أخرى، فالثقافة تمنح بطاقات خاصة قد يتمكّن حاملها من أن ُيلصقَ بالثقافة مفردات لا يتوافر فيها شرطُ (التراكمية) أو (التقادمية)... من هؤلاء؟ هم (الرموز الثقافية)، الذين يتوفرون على قدر باذخ من الكارزمية في نظر من ينضوون تحت لواء تلك الثقافة.
إذن نحن إزاء أنواع من المفردات الثقافية: مفردات تدخل إلى حيز الثقافة من جراء (التراكمية) أو (التقادمية) ومفردات أخرى تلج من باب (الكارزمية) - كارزمية الفكرة أو الذات أو معاً، وثمة باب آخر أيضاً هو (التقليدية) وذلك بتقليد الآخر في شيء رأت الثقافةُ أن فيه ما يغري على نقله وتخزينه وإتاحته ل(الاستهلاك الثقافي)، على الأقل لفئة معينة، إذ لا يلزم للمفردات أن تكون صالحة للكافّة، وهذا يقودنا إلى فكرة (طبقات الثقافة) و (مستويات الثقافة)، فثمة ثقافة عامة وثمة ثقافات فرعية بحسب الشريحة أو الفئة الاجتماعية - الوضع الاقتصادي- العمر - المنطقة الجغرافية - المذهب أو الطائفة - التعليم والتأهيل
وبعد هذا التحليل الخاطف لمفردتي (خطايا) و(الثقافة)، نكون قبالة التحليل المركب ل(خطايا ثقافية)؛ وعدد من الأسئلة الإشكالية يلزمنا التعاطي معها، منها:
* ما جوهر (الخطايا الثقافية)؟
* هل نحن من يصنّع (الخطايا) ثم نلصقها بثقافتنا بطريقة ما؟
* أم أن الثقافة هي التي تصنّع (الخطايا) بطريقتها الخاصة؟
* هل الثقافة حين ُتهمل من قبل أصحابها يتخلق لديها قابلية من نوع ما تجعلها ميالة لصناعة الخطايا الثقافية أو التسترِ عليها أو التواطؤِ مع من يصنّعها أو يسوّقها؟
* أم أن مسئولية إنتاج الخطايا الثقافية مشاعة بيننا وبين ثقافتنا بمعدلات وبواعث وآليات مختلفة؟
من الجلي أن التعاطي مع تلك الأسئلة وتفكيكها أمر معقد للغاية، ولاسيما إن كنا نروم اجتياز مستويات وصف الظاهرة إلى مستويات تفسيرية لها، غير أن هذا المقام التحليلي المكثّف لا يتيح لنا التوسع كما يقتضيه الحال، وبشكل مختصر، يمكن القول بأن (الخطايا) تصبح (ثقافية) حين تلتصق بالثقافة أو ُتلصق بها أو تنبع منها أو تسوق من خلال مفرداتها أو تمرر عبر وظائفها، والمسئولية مشتركة بيننا وبين ثقافتنا في صناعة الخطايا الثقافية وتجذيرها والتسويق لها، ولكن الثقافة برمتها هي صنيعتنا، ويفترض أن تكون إلى حد ما تحت سيطرتنا، من هنا تتضاءل مسئولية الثقافة باعتبارها متغيراً تابعاً وتتضخم مسؤوليتنا باعتبارها متغيراً مستقلاً... مع الإشارة إلى أن المسألة نسبية في ما يخص المتغيرات التابعة والمستقلة... والخطايا الثقافية بالمعاني السابقة حتمية في وجودها في كل مجتمع إنساني، أياً كان، غير أن الثقافة النشطة يمكن أن تخلِّص المجتمع من أكبر قدر ممكن منها!.
ويتبع >>>>: خطايا ثقافية (2-2)
واقرأ أيضاً:
البروفيسور المسيري.. مفكر القرن (10) / .... مفتاح نهضوي افتقدناه..!