"الأمة هي الحافظة للدين" كم فرحت بهذه العبارة حين سمعتها من أحد كبار القيادات الإسلامية في حفل زواج!!
العبارة لأحد الفقهاء القدامى، وقد أشعرتني بالأنس الشديد وسط وحشة أستشعرها حين أراني محاطا بأوهام وأساطير عن الدولة والسلطة والسياسة سواءا كأفكار مجردة، أو كممارسات حالية أو هياكل شديدة الهشاشة، والتخلف في عالمنا العربي، وأغلب العالم الإسلامي، أو عالم المستضعفين الفقراء ضحايا التخلف في "العالم الثالث"، تلك التسمية المؤدبة لعالم البؤس والعوز!!
يجري الناس في بلادي وراء سراب الأماني، وينتظرون أشباحا، ويتخيلون أن هناك أنظمةَ حكم في الأقطار العربية يمكن أن ننادي عليها فتجيب وتتحرك لإصلاح ما أفسدته هي!! وهذا لعمري من ضروب الخبل الذي يلزمنا منه العلاج السريع!!
وتتبدد الطاقات والأوقات في لغْوٍ حين تنفتح السيرة في المجالس أو على الشاشات حول "تلك" الكائنات الخرافية التي إن صحت أخبار وجود مخلوقات فضائية فإن وجود أجهزة ومؤسسات دولة عندنا بالمعنى الأكاديمي أو العلمي، أو كما عرفت البشرية والإنسانية في تاريخها الحديث، يبدو محض هلاوس وضلالات، وربما هذيان بعد ضربة شمس!!!
وأكاد أموت من الضحك ـ بدلا من اليأس أو البكاء ـ حين يكتب أحدهم شتما أو لوما أو رجاءا أو مدحا أو ذما في تلك المخلوقات الخرافية، أو تلك الأشباح الوهمية!!! الأنظمة!!!
أقرأ رواية عبقرية للكاتب المتميز "إبراهيم الكوني"، هي الأخيرة فيما صدر له بعنوان: "من أنت أيها الملاك؟!"
وحتى الثلث الذي أنهيته بالفعل فإن السطور التي أبدعها الكوني تقدم تشريحا عميقا ومؤثرا ـ بل ومذهلا في بعض مواضيعه ـ عن وهم الدولة / السلطة وجحيمها في عالمنا العربي!! وعما تفعله بنا!!
وأقوى وأفظع ما في هذه الرواية الكابوسية أنها تصف وتحلل واقعنا ومآسيه فيما يختص بأجواء الحياة في أوطان كهذه!!!
والرقيب الثقافي العربي لا يهتم كثيرا بالروايات لأنه يعرف أننا أمة لا تقرأ، فقط نتكلم ونغني ونشكو ونتذمر جاهلين بجهلنا!!
طبعا الرواية تستخدم لغة الرموز ـ وهكذا الأدب الجيد ـ للتمييز اللازم بين ما تعنيه كلمة "دولة"، وبين ما هو قائم في واقعنا من مجرد أجهزة بطش، وسلطات قمع، ومؤسسات فساد وإفساد للدنيا والدين، وهي تفيض وتستفيض في وصف حالة الانتظار التي يقبع فيها المواطنون بانتظار أن تتكرم عليهم "الدولة" بأبسط واجباتها وحقوقهم!!
ولا أحسب غير أن من ينتظرون هكذا سينتظرون طويلا بلا طائل ولا جدوى ولا نتيجة!!
وأعترف أن كلام من أحسبهم عقلاءا ما زال يثير دهشتي في هذا الصدد، وربما تحولت الدهشة إلى مرارة وحسرة لأنني أتفق مع الكوني حين يقول: "الشقوة ليست في أن نفشل، ولكن في أن ننتظر، أدرك في أن القصاص ليس أن نيأس، ولكن أن ننتظر، أدرك أن البلية ليس أن نهلك، ولكن أن ننتظر، والعلة ليست في خيبة الطلب، ولكن لاستحالة أن يستمرئ الإنسان الانتظار أبدا ـ انتهى، وأحسب أن من ينتظر حركة أو نجدة أو تعاطفا مما يسمى الدولة سينتظر أبدا، حيث "الحياة في ذلك الوطن المفقود ليست سوى انتظار طويل، بل انتظار أبدي لا يضع لأبديته نهاية إلا النهاية الطبيعية التي هي الموت" كما يقول الكوني.
وأتفق مع الكوني أن هذا الانتظار البائس يصاحب تبديد أنْفَسِ ما وهبنا في دنيانا وهو الوقت، وسوسة هي علة أخرى أقسى ألف مرة من علة تبديد الوقت، لأنها تبديد لكنز آخر أنفسَ حتى من الوقت، وهو الروح؟!"... انتهي
وكمثال على مدرسة الانتظار التي يملأُ أنصارها نوادينا ومنابرنا وصفحات وشاشات حياتنا عثرت على مقال حديث لأحد أساتذتي، وهو الكاتب "فهمي هويدي" ينعي فيه على الأنظمة العربية والإسلامية خذلانها لمسلمي الإيغور ـ تركستان الشرقية بعد مذابحهم على يد مواطنين صينيين آخرين، أو بواسطة أطراف في الأمن أو غيره من الهيئات الرسمية الصينية!!
وربما هو يستغرب أن أنظمتنا السلطوية صارت تستنكف وتؤجل وتستعين بالتسويف على قضايا خطيرة وملحة مثل هذه، وربما نعرف جميعا أن اجتماعا كمثل هذا الذي تم التسويف في عقده لمنظمة المؤتمر الإسلامي لم يكن ليصدر عنه شيء غير عبارات جوفاء، وكليشيهات التنديد المكررة!!!
ومثل مقال الأستاذ هويدي تأتي مقالات وخطابات وتوجهات من شخصيات ونُخَبٍ نحسبها على وعي وفهم، وهذه الخطابات والكتابات تتنافس في تفصيل التحليل والتفسير، وتقديم الوصف والمعلومات حول ما هو قائم في حياتنا السياسية والاقتصادية، والاجتماعية بنسبة أقل، ثم إنها حين تصل إلى تقديم الحلول نجدها تتوجه إلى القابضين على رقابنا، ومن أفسدوا حياتنا، وينهبون أموالنا، ويديرون أمورنا بألوان وأنواع ودرجات من الفشل وعدم الكفاءة، وفي بعض الحالات تتوجه المقالات والخطابات والعرائض إلى الشعوب العربية لتبيان حتمية إزاحة هذه الأنظمة المتغلبة، وكأن هذه الإزاحة هي نزهة قصيرة، أو فكرة ملهمة غائبة عن عقول الناس، ويحتاجون لمن يذكرهم بها!!!
والحقيقة في رأيي تتمثل في أن الناس غائبة ومغيبة، وهي في التيه تتخبط غالبا بلا رؤية ولا بوصلة ولا أجندة أولويات، والعقول ضعيفة تتلاعب بها الأقلام والأفلام، والصور والكلمات التي تزيدها تيها وتخبطا.
وفي رأيي فإن استعادة الوعي والدور والشعور بالمسئولية لدى الأفراد ومجموع الأمة يبدو حتمية على طريق التغيير، بحيث إذا لم يكف الناس عن الشكوى المزمنة، والصبر وانتظار ما لن يأتي، والترنح ما بين ياس قاتل ثقيل وشديد المرارة والنكد، وتفاؤل أبله وأهبل بلا مقدمات منطقية، ولا مبررات سوى تخدير الذات، وإزاحة السحب السوداء عن المزاج!!
إذا لم نتوقف عن هذا الهدر المستمر، وإضاعة الأوقات في الحسرة على أحوال نحن جزء من إفسادها بشكل أو بآخر، وإذا لم يستشعر كل واحد فينا أنه مسئول ومتضامن فيما يجري، وقادر على تغيير أشياء كثيرة مما تصل إلى يديه، أو يصل هو إليها بحكم موقعه الأسري أو الوظيفي أو الإداري التنفيذي...إلخ.
إذا لم يندرج قطاع ضخم من الناس ـ على الأقل ـ في إحسان تلقي مهارات تحسين الأداء الفردي في الأدوار اليومية لكل منهم، وتحسين الأداء العام بخطة وتدريج وعزيمة وإنجازات متصاعدة، وإن صغرت.
إذا بقينا نتألم ونتحسر ونتقوقع طلبا للحماية أو الأمان كل في كهفه، أو تحت نقابه الخاص، أو أقنعته الزاهية، أو نقده للآخرين بدلا من مواجهته لذاته، واهتمامه بتحسين أدائه، وأداء من حوله، والتعاون معهم في هذا!! بدلا من الاكتفاء بالتريقة!!!
إذا ظلت الملايين منا على وضعية "الموت بالحياة" التي نتنافس في إبداع أشكال وتفانين، والبحث عن ديباجات واسباب لها...
إذا بقينا نعيش مكتفين بأن يكون الوطن عبارة عن سرادق عزاء ضخم نبكي فيه الفقيد، ونعدد مآثره، أو سيرك ضخم فوضوي للفرحة والدهشة أو النميمة، مستسلمين لحالة من التحشيش اللذيذ بالدين كما نمارسه، أو بالتشاغل والانغماس في مشكلات اليوم والليلة، وهي كثيرة، أو متابعة أراجوزات السياسة بلا سياسة، أو الفن بلا فن، أو الحياة بلا حياة، كما نعيشها!!!
الحضور شرط الانعتاق، والأمة التي هي أنا وأنت وهو وكل مواطن عربي، وكل مسلم أو مسيحي أو غير ذلك ممن يضعون أنفسهم ضمن إطار هذه الثقافة والحضارة، "نحن" هذه الهائلة الممتدة قادرة على فعل المعجزات، وحل المشكلات، وإدراة الأزمات، ولكن هذه ال "نحن" مبعثرة تحتاج إلى لملمة، وغافلة مذهولة عن قوتها وأهميتها، ولا محدودية قدراتها!!
فمن ينشر صفحة جديدة للوعي والتعاون والترابط ومحاولات الفهم والتفاهم، والحركة من بعد موت أو غيبوبة، وكثرة كلام بلا طائل؟!!
من يريد ويستطيع أن يخلع أقنعته، ويكف عن اللغو والهدر ويكون بنفسه نابضا مبدعا ساعيا ومتعاونا مع الآخرين للفهم والعمل؟!!.
واقرأ أيضًا
على باب الله: التقرير/ على باب الله: ضحايا النوايا الحسنة: مشاركة