عادة ما تخرج مقالتي من بين طيات الأحداث، وغالبا ما يكون الألم وقسوة التجربة هو باعث الأفكار ودافع الكتابة، ربما يحدث ذلك لأنني أجد السلوى في ذلك، وربما لأنني أحب دائما أن أسجل دروس الحياة التي قد يراها الآخرون صغيرة لا تستحق الوقوف عندها، لكنني أراها حينها مجرد حوادث عابرة أو مواقف يومية وإنما مبادئ ومفاهيم ومعان أجد عقلي يتوقف عندها ويبدأ في تحليلها وتأصيلها ومحاولة فهمها
أضرب مثالا لذلك: فاجأت خالي نوبة من ألم شديد في الصدر جعلنا نهرع إلى استقبال إحدى المستشفيات الكبرى، وذهننا يتوقع ذبحة صدرية، وبالفعل وعند إجراء الفحوصات المبدئية ورغم عدم تأكيدها للتشخيص السابق، إلا أنها لم تستطع نفيه من ذهن الأطباء نظرا لشدة الأعراض، فقرروا حجزه في قسم العناية المركزة رغم أن احتمالا قويا بأن الأمر لا يعدو أعراضا جسمانية لضغط نفسي كان متوقعا عند الأطباء، لكن القاعدة التي تعلمناها جميعا أن هذا الافتراض لابد أن يسبقه قطع أي احتمال لسبب عضوي مهما ضعفت نسبته.
وأدخل خالي إلى العناية المركزة، ولأنني طبيبة، سمح لي بمرافقته إلى غرفة العناية المركزة، وبالجلوس معه قدرا كافيا من الوقت وبما أن عائلتي تزخر بالأطباء، فقد توالى دخول الطبيب تلو الآخر للاطمئنان على صحته، ثم بدأ أحد أقربائي الطبيب بنفس المستشفى بالاستئذان من الطبيب المناوب في أن يسمح لأقاربنا بالدخول واحدا تلو الآخر للحظات للاطمئنان عليه مع احترام قواعد العناية المركزة، وكانت هذه الأحداث في الساعة الواحدة ليلا، ومع طلوع النهار كان الخبر قد وصل إلى جميع الأهل والأقارب، وبدأت الاتصالات القلقة والإصرار على الحضور إلى المستشفى ليكونوا بالقرب منه ولو لم يستطيعوا دخول قسم العناية المركزة، وبالفعل توافد الأهل من طرف عائلتنا من جهة ثم من طرف الزوجة من جهة أخرى، وعندما أخبرتهم أن وجودهم لن يفيد بشيء فهم لن يستطيعوا رؤيته، قالوا سنكتفي بالوقوف أمام بوابة المستشفى من الخارج في انتظار خروجه، وكانت إجابة أحدهم: هل تريدين منا أن نبقى في بيوتنا نأكل ونشرب هادئين حتى يخرج؟؟!!!!!
كنت أشعر بحرج شديد ما بين استغلالي لحقي كطبيبة في إدخال أي شخص إلى المستشفى في أي وقت وبين فهمي لضرورة توفير الجو المناسب في المستشفى الذي يسمح للأطباء ومعاونيهم بالقيام بدورهم دون إرباك، كما يتيح الهدوء المطلوب للمرضى الآخرين، فأنا ممن يحبون الالتزام بالقواعد وخاصة المنطقي منها.
موقف عادي، نشاهده كأطباء كثيرا في مجتمعنا، ويقابله الكثير من زملائنا بالسخرية من هذه المشاعر، أو بالتعنيف الشديد للأهل الملهوفين، أو بتجاهلهم تماما وعدم التعليق على تساؤلاتهم البسيطة، والقانون الذي تعلمناه يقول أنه يجب في هذه اللحظات أن نجنب العواطف جانبا حرصا على إسعاف المريض. أمر قد يراه البعض واضحا لا يحتاج إلى تفصيل لكن عقلي لم يتوقف عن التفكير؛ ما هو التصرف الأمثل؟ وهذه العواطف التي عادة ما يتحدثون عنها كشكل من أشكال تخلفنا وعدم عقلانيتنا، لكنني أراها صمام أمان تماسك مجتمعاتنا وترابطها، ناهيك عن ما نجده من إيحاءات تلتقي معها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
كيف يمكننا ترشيدها دون أن نفقدها ودون أن يكون السلوك المتحضر والذي مثله مجموعة من المعارف ممن ارتقوا في المناصب، وذابوا تماما في النموذج الغربي للمجتمعات كنموذج أوحد للمجتمع المتحضر، فوجدتهم يسخرون من تصرفات هؤلاء (الفلاحين) ويكتفون بمجاملة باردة بعد خروجه من المستشفى من باب العقلانية والسلوك المتحضر، وما بين هذا وذاك كان هذا العقل المتعب (بكسر العين) يسأل: هل هذه القواعد في المستشفيات والتي أراها مقنعة نوعا ما، والتي وضعت بالكامل بناءا على القواعد الغربية والتي أقامتها بناءا على دراستها لمجتمعاتها التي تختلف كثيرا عن مجتمعاتنا من حيث الروابط الاجتماعية والإنسانية وطرق التعبير عنها، ومفاهيم العلاقات والقائمة أساسا على مبادئ الفردية والمادية البحتة؟
أقول هل هذه القواعد هي الحل الأمثل والأوحد ومنتهى الأمل؟ أم يمكن أن يكون هناك حل آخر يناسب مجتمعاتنا ومفاهيمنا يجمع بين الواقعية والعقلانية اللازمتين لسير عمل الأطباء، وأهمية وجود نظم لا تخترق وترشد هذه العواطف التي قد تندفع أحيانا بشكل يجب كبح جماحه لكيلا تكون مخربة، وبين احترام هذه العواطف وتقديرها بل والحفاظ عليها وفهم أن هذه العواطف باعثها صدق ووفاء وترابط وحب وجسد واحد يتداعى لشكوى عضو منه؟ بل ربما أطمح لما هو أكثر من ذلك وهو استغلال هذه العواطف لوضع نموذج متميز غير مسبوق في المستشفيات.
هل يمكن أن يكون لنا نظامنا الذي يجمع بين الأمرين فيخرجنا من فردية المجتمع الغربي وماديته البحتة، ويرشد العواطف المتأججة في نفوس مجتمعاتنا والتي ترتكز أساسا على مبادئ ديننا كما رشد نبينا صلى الله عليه وسلم العاطفة عند المصيبة كالموت مثلا في قوله "إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن" وفي المقابل "ليس منا من لطم الخدود وشق الصدور".
وبين "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم" ومشروعية العزاء وبين "لا يحد على ميت فوق ثلاث"؟
بين قوله تعالى في الحديث القدسي "عبدي، مرضت فلم تعدني، قال كيف أعودك يارب وأنت رب العالمين، قال: مرض عبدي فلان ولم تعده ولو عدته لوجدتني عنده" وبين أن الفقه يقول أن السنة عدم الإطالة عند المريض بل وعدم الأكل أو الشرب عنده.
ثم إنني نظرت إلى زاوية أخرى ألا وهو المريض نفسه؛ فعندما جلست معه في الرعاية المركزة، وجدت أن جلوسي معه يمثل تدعيما قويا له وسط الرنين المنتظم لأجهزة قياس الضغط ونبضات القلب، وبين أنات المرضى من حوله، بل وحينما يهرع الجميع لإنقاذ حالة توقف مفاجئ للقلب بجواره، ورأيت المريض المجاور ينادي الممرضات بين اللحظة والأخرى ليسأل أي سؤال، وكأن الهدف أن يتحدث مع أحد وليس الهدف هو السؤال ذاته.
وفكرت أن هذا المريض هو من نفس المجتمع الذي نشأ فيه الأهل الواقفون عند باب المستشفى، لذا بالتأكيد فإن احتياجاته النفسية والعاطفية ومفاهيمه حول معاني الدعم والمساندة لن تكون بعيدة عن مفاهيمهم.
ثم إن هناك نقطة أخرى أغفلناها حينما نقلنا هذا النظام الغربي بحذافيره وأطره الخارجية، وهو دور طاقم الرعاية من أطباء وممرضين في الدعم النفسي للمريض، وهو ما وجدت أنه أصبح فصلا ثابتا في أي مرجع طبي مهما كان التخصص حتى وإن كان مرجعا يتناول الأمراض الجلدية، بل إنهم جعلوا هذا الدعم من حقوق الإنسان الواجب الحفاظ عليها، وأذكر أنني عندما كنت أُحضِّر موضوعا حول (كيفية أخذ عينة دم من المريض) وجدت أن الخطوة رقم واحد في المراجع الطبية هي: إخبار الشخص (والذي قد لا يكون مريضا) بكل ما سيحدث، ووصف ما قد يشعر به وتفسيره قبل سحب العينة، أما الخطوة رقم اثنين فهي أن يجلس الشخص في وضع مريح مسترخي العضلات، ثم كانت الخطوات التالية خطوات تكنيكية بحتة حول التعقيم ثم أخذ العينة، ومعالجتها بالمواد المطلوبة وخلافه.
ونظرت إلى طاقم العمل في قسم الرعاية المركزة فوجدتهم يقومون بعملهم على أكمل وجه، لكن كآلات تتحرك، تتعامل مع "حالة" وليس إنسانا يحس ويشعر، وتذكرت درساً علمونا إياه (لأنه يدرس في المناهج الغربية التي ننقلها، وليس لأنه يأخذ حيزا حقيقيا من التنفيذ في واقعنا) حينما كنا في السنة الثانية في كلية الطب حول (علاقة الطبيب بالمريض) أو بالإنجليزية (doctor patient relationship) وكان أحد بنوده الذي لا أنساه: "اعتبر كل مريض تراه إنسانا مستقلا بذاته، ولا تعتبره رقما في عدد الحالات الشبيهة التي قابلتها".
بل إنهم كانوا يعلموننا قواعد أخذ التاريخ المرضي من المريض (المنقولة عن الغرب) فقالوا لابد من أن تبدأ بسؤال المريض عن اسمه، وكان سؤالنا: وما أهمية معرفة اسمه إن كنت سأفحص كبده أو طحاله؟ فكانت الإجابة المسجلة في الكتب العلمية "حتى تخلق جواً من الألفة مع المريض" أو كما كنا نحفظها "to get familiar with the patient" لكن ولأنها كانت نصوصا محفوظة لا نفهم لها عمقا، ولا نجد لها واقعا لتنفيذها في ظل الظروف الصعبة التي يعمل فيها الطبيب العربي، كانت تعتبر هذه القواعد رفاهية غربية لا تصلح لمجتمعاتنا العربية. لدرجة أنني أذكر عندما كنت طبيبة امتياز في مستشفى الأطفال وجدت أماً قروية حجزت بطفلها لمدة شهر ولا تعرف له تشخيصا ولا تجد إجابة عند الطبيبة المشغولة، وعندما نبهت الطبيبة لذلك اعتبرت أن هذه الأم "mindless" ولن تفهم، فما الجدوى من الشرح لمثلها؟؟!!
وبعد كل ما عرضت مازال السؤال في ذهني حائرا: هل يمكن أن يكون هناك نموذج بديل يراعي الواقعية والنظام ويكبح العواطف الجامحة، وفي نفس الوقت يحترم هذه العواطف ويرشدها بل ويستخدمها للوصول إلى أفضل النتائج؟ أم سنظل ننظر بفوقية إلى أهلنا ومن حولهم ونفترض أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان؟............... هل؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
اقرأ أيضاً:
الفيلم / التحسينات / وتبقى التجربة......
التعليق: سؤال يطرح نفسه، هل نفس القواعد تناسب الجميع أم أن لكل فئة أو مجموعة قواعدها الأنسب لها. ذكرتني كاتبة المقال وهي لها أسلوب شيق يتسرب في هدوء إلي القلب، ذكرتني بأيام وجود أمي رحمها الله بالمشفي، حيث كانت بالرعاية وللرعاية المركزة كما تعرفون قواعد الزيارة الخاصة بها.
تمكنت أختي من الاختباء تحت سرير أمي بالرعاية حتى لا تلاحظها الممرضات وحتى تتمكن من البقاء إلى جوارها أطول وقت بعد مواعيد الزياة التي لم تكن تتعدى الساعة يوميا، ولأني الاخت الكبرى كان علي أن أتحمل أنا إلهاء الممرضات حتى تختبئ أختي وتقضي الوقت مع أمي.
رغم إدراكي لأهمية الحفاظ على القواعد إلا أن هذه الساعات المسروقة كانت تسعد أمي وتشعرها أننا إلى جوارها حتى في أحلك اللحظات.
كنت أعرف أمي وأعرف أنها لا تطيق البقاء وحدها بل كانت ترفض أن نغلق باب غرفتها ليلا وتقول لا تغلقوا علي باب القبر الآن!!
نعم رغم أني من من يحترمون القواعد ومن من يؤمنون بعدم إمكانية تفصيل القواعد فهذا مستحيل، لكني مع الاستثناء في بعض الأحوال ، ففي الاستثناء حياة!!!!!