منذ سنوات، كنت أحضر دورة تدريبية لمدرب متميز، حول التفكير الإبداعي، حركت الكثير من المشاعر والخواطر بداخلي، وبعد الانتهاء وقفت أسأله بعض الأسئلة، ثم قلت له: هل تعرف سيدي، إنني أطمح أن أشارك بقوة في تغيير هذا الواقع الذي نعيشه وأن أفتح لبنات جنسي مجالات جديدة للعمل والإبداع في المجتمع، وأن أقدم ديني للعالم تقديماً عملياً منتجاً، فأجابني بابتسامة (لا أعرف نوعها): جميل، لكنك تحتاجين زوجا يتركك في الشارع طوال اليوم!!!
جاءتني والحزن بادٍ عليها، والحيرة تملأ عينيها لتبوح لي بتساؤلاتها:
قالت: أطمح أن أترك بصمة في هذه الحياة، وطموحي ليس له حدود فهل أنا مخطئة؟
وأكملت تقول: لكن الجميع من حولي يقولون: كوني "واقعية" واعرفي مكانك، ليس ذلك لكنّ بنات حواء، ولن تجدي زوجا يقبل بمن تتمنى حياة كحياتك التي تنشدين، أو تطمح كما تطمحين، ثم ماذا عن الخروج ومخالطة الرجال، ألست تقولين أنك تبغين وجه الله بإصلاح أرضه، فهل تطلبين رضى الله بفعل ما لم "يأمرك" به؟ أليس البيت أولوية "المرأة"؟ وكيف أحلم بالسفر والتعلم، والدعوة لديني العظيم؟ وهل يرضي ذلك الله؟ يا عزيزتي الكل يؤكد أن زوجاً يقبل بطموحي هو ضرب من الخيال وبصراحة لست ممن يستطعن تحمل المجازفة، ما الضير إن تخليت عن "أحلامي الوردية" وأن أكون "واقعية" فكلهن تفعلن ذلك.
ولها كتبت رسالتي، فاقرؤوها:
كيف استطعت بحديثك أن تنتزعي مني كل هذه الأنواع من المشاعر يا صديقتي؟
أثرت والله شجوني، واستفززت دموعي، وانتزعت ابتسامتي، وداعبت أفكاري وخواطري... ورغم أنني لست عالية الهمة مثلك، غير أننا نلتقي في الكثير. لكنني حبيبتي أسألك وأسأل نفسي: “لماذا نريد أن ندافع عن حقوق المظلومين، ثم نصادر حقوقنا؟”
لماذا نتحرج من طموحاتنا، وأهدافنا لله عز وجل؟
وهل من تركوا بصمة في هذه الحياة كانت لديهم حقوق مختلفة؟
تعرفين أنني لست من دعاة تمرد النساء لكنني من دعاة الفهم وعدم مصادرة الحقوق.
ألسنا محاسبون يا صديقتي؟
أليست الجنة؟
ألا ندخل ضمن المخاطبين في قوله عز وجل: “.... وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ” (المطففين:26)؟
فلماذا نتحرج من رغبتنا القوية في تصدر المنافسة؟
ألم يضرب الله مثلا للذين آمنوا ب”امرأة” فرعون؟ ومريم ابنة عمران؟
ألم يشأ الله -وهو الحكيم- أن تكون أول شهيدة في الإسلام: هي سمية “امرأة”؟
وكذلك أول شهيدة في غزوة بحرية “أم حرام”.
بل دعيني أتوقف هنا لأقول:
لماذا ننسى طموح أم حرام؟
ألم تعلنه بوضوح أمام قائد الأمة صلى الله عليه وسلم وقدوتها: "ادع الله أن أكون منهم"
بمجرد سماعها أن باب الجهاد بالبحر سيفتح طار طموحها أن تكون من الفوج الأول.
هل قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك ولذلك؟
ألم تتقدم النساء بمطلب نسائي واضح: “اجعل لنا يوما كما أن “لهم” يوما فقد “ذهب الرجال بحديثك”؟
أليست تزاحم وتطالب “بحقها؟”
هذه هي الحقوق حبيبتي.... الحق في الجنة. الحق في ممارسة الحياة وإصلاحها، مادمنا لا نخلط المفاهيم والأدوار ولا أحسبك ستفعلين إن شاء الله. فلماذا نصادر على أنفسنا حتى الحلم؟
ألسنا نحفظ ” خلق الله الإنسان لعبادته وعمارة الأرض”؟
ألسنا من بني البشر؟
لكن وعيك يا صديقتي حينما وجدك تحلقين في سماء الحلم أبى إلا أن يقول لك: لكن الواقع....... وهنا أتوقف معك وقفة؛
بالتأكيد لنا أن نسمو بنوايانا وطموحاتنا ما نشاء
وأن نكون من أهل الهمم العالية
لكننا لا نغفل الواقع والتفاصيل
نطمح “لأثر” أعمالنا أن يحقق كل ذلك، لكننا نفهم جيدا دوائر التأثير
ونفهم أن القصد هو الله
لذا لابد أن نصدق معه ونسأل هل يرضي ذلك الله؟
فلا تكفي الرغبات والنوايا
لكن سؤال: كيف سأحقق طموحي؟ حوّل الأمر من:
“تمنى على الله الأماني” إلى نية وقصد ووجهة وهدف، غير أني حبيبتي أجدك خلقت ثنائياتٍ وضَعت بعض الأمور وكأنها تعارض حلمك، ولا أراها كذلك. كما أراك تتساءلين في جنباتك عن ما يسهل حسمه ومعرفة حكمه وضوابطه بوضوح من المختصين، بل وليس مجرد رأي عابر، بل علينا عزيزتي أن نفهم ونحيط بكل جوانب فقه الحركة للمرأة، لنفهم أولا فيكون التصور منضبطا، ثم لنزيل أكوام المفاهيم التي ما أنزل الله بها من سلطان من إفراط أو تفريط يخنق الحلم بداخلنا أو يجعله هباء لا قيمة له.
دعينا نبحث بجدية عن إجابات لأسئلتك المشروعة جدا وستفاجئين عزيزتي بسعة الإجابات وأننا فعلا نحرم أنفسنا من الحلم!!!
نقطة أخرى: تقولين هل يرضي الله أكثر أن يكون الزواج أول أولوياتي فأقبل زوجاً وإن خالف طموحاتي؟!!، ولي هنا نقطتان:
أولاً: ليس الزواج أول الأولويات، بل أن أكون متقنة لمراد الله مني في ظروفي المختلفة: بمعنى إن كنت طالبةً أدرس فأفعل ما يجب علي، فإن تزوجت عرفت دوري وعبدت الله بمحراب عبادتي الأول وهو بيتي، لكن أن يكون “الزواج” -بصفته– أولوية، لأوجبت على كل واحدة من بنات حواء أن تتزوج أول عابر سبيل لأن ذلك “يرضي الله أكثر”!!!!!!! ولا أحسب ذلك والله أعلم.
نبينا صلى الله عليه وسلم كان شديد الدقة في اللفظ حبيبتي (وما ينطق عن الهوى):
لم يقل: إذا جاءكم ”صاحب” الدين والخلق
بل قال: إذا جاءكم من “ترضون” دينه وخلقه
رضاك بدينه وخلقه هو المقياس، ما دمنا عاقلين في نظرتنا ونفهم أنه حتى صاحب الدين والخلق ليس شكلاً أو صفةً واحدة بل متنوع. فكل يدخل على الله من باب. هناك من ترضى أن يكتفي بأداء الصلوات الخمس، هذا هو دينه الذي ترضاه... وهكذا. فإن وفق الله للزوج المتآلف مع فكرك وطموحاتك صار البيت أول الأولويات.
ثانياً: ولكن الأمور ليست فقط ”إما.......أو” إما البيت أو طموحي. وكأنهما ضدان لا يلتقيان!!!!! ثنائية مشوهة خلقتها الكثير من نماذج الواقع في عقولنا رجالاً ونساءً. بسبب تصور خاطئ لشكل البيت الأمثل، وكذلك تصور ثابت جامد لأشكال ووسائل التأثير والعمل العام والدور الإصلاحي.
لا أجد حبيبتي تعارضاً بين زواجٍ وبيتٍ كلاهما أولوية للرجال والنساء (على السواء بالمناسبة حبيبتي) فالله تعالى يقول: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ.....”(التحريم:6)، ونبينا يقول في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على" أهل بيته" وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على "أهل بيت زوجها وولده" وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" (فتح الباري 13/96) فقدَّم مسئولية الرجل عن بيته قبل المرأة.
فمن الذي قصر هذه الأولوية على النساء؟!!!!! ولماذا نخلط بين تنوع الأدوار وأشكال المسئوليات وبين الحلم والطموح؟!!!!
تساءلت عن مخالطة الرجال، وأسألك: ماذا يفعل من لم يعرف الإجابة؟
يصبح واجبه أن يسأل أهل الذكر “.....فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” (النحل:43)، فتحقيق الطموحات حبيبتي لا يكون بغير جهد حقيقي يرى الله تعالى به صدقنا.
هل جربت أن تقرئي في كتاب “تحرير المرأة في عصر الرسالة”؟!، ستذهلين من الإجابة....
لكننا بسبب عدم اهتمامنا بالبحث فيما يمس حياتنا حسبنا الأمر غير ذلك، مع ما نراه من النماذج السيئة من إفراط وتفريط.
لماذا تحاصرين نفسك في أسئلة “إما….أو” هل أسافر أم لا أسافر؟
لا تضعي حبيبتي تصوراً واحداً عن كيفية تحقيق أحلامك، وأكثري البدائل، فالمهم هو الهدف والغاية، وابتكري، واجتهدي، ولكن احذري أن تتنازلي عن............ الحلم.
اقرأ أيضاً:
توفيق إدريس / صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم / البحث.....
التعليق: مقال جميل وفيه نوع من مشاكل واقعنا المعاصر .
أرى أنه يجب أن لا يكون هناك تعارض بين الزواج والطموح الشخصي، فكل ما على المرأة فعله هو اختيار الشخص المناسب الذي لديه نفس الهدف ونفس الطموح وأن يكونا شريكين لتحقيق هذا الهدف المشترك بينهما