عطشت في محطة سكك حديد الزقازيق، وقررت أن أشرب من قلة، وبحثت عن قلة في كل المظان التي تخيلت أنها فيها، ولم أجد!! شربت من الصنبور، وأشعر بعدم راحة في معدتي.. ماء الصنبور في مصر (غير آمن)!!
في حالة الغيبوبة التي نعيشها في مصر يغفل الناس، أو بالأحرى يتغافلون، عن أسباب ووسائل الضرر المحقق، وغياب أدنى معايير السلامة الصحية في الماء والغذاء والهواء، وأماكن العمل والدراسة والسير ووسائل النقل، وجميع نواحي الحياة، الأمر الذي يجعلنا محاطين بأسباب الموت المحقق في كل لحظة لولا ستر الله وحفظه، وبنظرة بسيطة إلى أرقام وأعمار ضحايا الأمراض المفاجئة والمزمنة، والحوادث على الطرق السريعة، وضحايا الإهمال في كل زاوية وركن، الأرقام مفزعة ومعدلات الموت المفاجئ، والأمراض العجيبة والمنتشرة هي نتائج طبيعية لخضروات وفواكه تسقى بماء المجاري، والشرب من ماء الصنبور غير الآمن، أو ماء زجاجات المياه المسماة بالمعدنية، وهي ليست بعيدة عن عيوب التخزين لمدة طويلة، وفي ظروف غير مثالية ولا صحية أحيانا كثيرة!!
وإذا نظرنا إلى الطعام المطبوخ سنجد إقبالا على مطاعم الوجبات الجاهزة التي تعمل دون رقابة صحية تذكر، والطبخ كفن ومهارة صار ينحسر، وبالتالي نقع في قبضة المجهول دون رقابة لسلامة ومعايير الغذاء الصحي الطازج مثل الخضر والفاكهة، أو المطبوخ بأنواعه.
ولأسباب لا أعرفها تشن بعض الأجهزة الرقابية حملات وتقوم بدورها المعطل أحيانا فتنكشف الأهوال!! ثم ما نلبث أن نعود لحالات الإفساد والفوضى!!
الغذاء الفاسد، والهواء الفاسد، والماء الفاسد، وأكياس الدم الفاسدة، والتعليم الفاسد، والإعلام الفاسد، وبقية الصورة تسلمنا إلى إمبراطورية للفوضى والفساد بمعناه الشامل، وتلك هي حياتنا!!
على مستوى الحلول لدينا قطاع ضئيل من الناس لديه الوعي بهذا التخريب تفصيلا وتأصيلا، والباقون قطيع يساق إلى حتفه فتسقط فيه الجثة تلو الجثة، ولأننا شعب الخلط بين القدر وقضاء الله، وبين مسئوليات البشر في القيام بأبسط اعتبارات الواجب لضمان السلامة في الأكل والشرب، والنقل والزرع، وكل نواحي الحياة، وبالتالي لا حساب لمهمل، أو نكتفي بالدعاء عليه والحوقلة والحسبنة!!! وكل شيء نعلقه على شماعة القضاء والقدر لنستريح!!
والقطاع الضئيل الواعي بالتخريب أغلبه ساكت يكتفي بالمعرفة والبحث عن ملاذ شخصي، وهؤلاء يعرفون كيف يفرزون غذائهم، ويدققون في مائهم!!
في مصر مياه شرب تأتي مستوردة من فرنسا وغيرها، وآخرون يكتفون بتركيب أشكال وأنواع فلاتر تنقية المياه
أو تحري أفضل أنواع المياه المحفوظة في زجاجات، بينما نظام الترشيح والتنقية القديم قد تآكل واندثر!! ولا أحد يفكر في إبداعات ملائمة!!
كنت أحب الشرب من القلة، وأحب مذاق مياه الزير، وأذكر كلاما كثيرا سمعته عن جودة الماء الذي يرشح من الزير، وعن الدور الحيوية التي تقوم بها القلل، وكان لدينا منها أشكال وأنواع، وألوان وأحجام.
بدلا من البكاء على اللبن المسكوب لماذا لا يتعاون بعض الفاهمين في إبداع حلول بسيطة لتحسين المطعم والمشرب والمأكل على قاعدة الإنجاز الشعبي فرديا وجماعيا؟!!
ماذا نأكل وكيف؟!!
كيف نطبخ؟! وكيف نتلافى مشكلات الزرع الفاسد، والعلف الفاسد للحيوانات والطيور، والماء الضار صحيا لأسباب وأسباب؟!!
ما هي الاختبارات والعلامات التي يمكن أن يجريها أو يلاحظها المواطن لضمان الحد الأدنى من سلامة الحياة في مصر؟!!
وما هي المعالجات والعلاجات التي يمكن إدخالها للنجاة من آثار الإهمال الشيطاني الذي يمارسه بعضنا تهاونا أو تلاعبا بهذه الاعتبارات الأساسية التي لابد من مراعاتها؟!
وكيف يمكن أن يفهم القطيع أن التلاعب في صحة البشر أو التهاون فيما يؤثر عليهم سلبا بقمامة تتراكم، أو هواء يتسمم، أو غذاء يقتل بسرعة أو ببطء، كيف يمكن أن نفهم أن هكذا إهمال أو تهاون يخل بإيمان المرء وإسلامه، وقد يخرجه من الملة ربما، مع التعمد والتكرار وتحري الضرر لا النفع ولا الصحة ولا السلامة، ولا العافية!!
لا ضرر ولا ضرار"... "من غشنا فليس منا"... وأحاديث وآيات وتراث طويل عريض تلوكه ألستنا في الإعلام والمجالس بينما نأكل ونشرب ونتنفس السم بإهمال أقوام تبرئ منهم ذمة الله، ولو صلوا صاموا وزعموا أنهم مسلمون!!!
والعجب أن يحدث هذا في بلد لديه متخصصون في الزراعة وتقنياتها، والطب البيطري ووسائله في كشف عوار الغذاء الحيواني، والصحة العامة وأبحاثها وأقسامها!!
كليات وجامعات ودفعات تلو دفعات وأبحاث ماجستير ودكتوراه توضع على الأرفف، وأجهزة إعلام تنشغل وتشغلنا بكل تافه وسقيم عوضا عن أن تتناول الكلام عن الأكل والشرب والعلاج وعن إدارة حياتنا بشكل أعمق ضميرا، وأعلى سلامة!!
حضرت ندوة نظمها أتحاد الأطباء العرب حول التأمين الصحي عرضت فيلم "سايكو" للمخرج الأمريكي "مايكل مور"(sicko) وأحسب أنه متاح، ولو أجزاء منه على اليوتيوب، والفيلم يناقش التأمين الصحي والرعاية الصحية في أمريكا مقارنة بدول أخرى أوروبية وغير أوروبية!!!
بعد عرض الفيلم تشرفت بالاستماع إلى د. محمد حسن خليل استشاري القلب، وهو يتحدث عن تاريخ وهيكل وتفاصيل قصة التأمين الصحي في مصر، وما يواجهه من نوايا وقرارات تصفية تزمعها السلطات في مصر استجابة لتوصيات وأراء البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وروشتة الإصلاح الآتي من الخارج الذي يدوس في طريقه للمستقبل على جثث الفقراء القدامى الكلاسيكيين، والفقراء الجدد ممن لم يجدوا لهم مكانا في أسواق الهبش والنصب والفهلوة والتسويق وبيع الهواء للمغفلين واقتصاد الفقاعات الاستهلاكي الذي هو عماد النمط الذي يسير عليه في العالم العربي حاليا!!!
ولأن جمهور المستمعين، وكانوا نفرا قليل من أطباء وصحفيين لم يكونوا على دراية بهذه التفاصيل اقتضى الأمر المتحدث أن يطيل ويسهب في الشرح المتعجل نتيجة لضيق الوقت، ولعلي أقوم في برنامجي "فش غلك" باستضافة الدكتور محمد لنحكي الحكاية سويا!!
في تعليقي على كلمته بالندوة قلت: لا أدري إذا كنا في مصر بمجالسنا الخاصة والعامة، وإعلامنا المرئي والمسموع والمكتوب نحكي عما يخص حياتنا بجدية، أي عن التعليم والصحة والغذاء والهواء والماء!! إذا لم نكن منشغلين بهذه القضايا، ولا نتناولها بالشرح، ولا نسعى وراءها بمحاولة للفهم والتغيير إلى الأفضل شعبيا ورسميا، فأي موضوعات تشغلنا؟!
وعن أي شيء نتكلم إذن؟!!
ما جدوى الأقسام الجامعية في الكليات سالفة الذكر؟!
وما جدوى أبواق الإعلام غير الطنين والطحين بل الجعجعة فيما لا يفيد؟!
وإذا كنا قد كسرنا القلة والزير، ونشرب من الصنبور ماءا ملوثا، ولا نبحث معا متخصصين ومواطنين عن حلول لهذا وذاك فيما يخص حياتنا اليومية، وما يحتاجه الإنسان يوميا، وما يدخل إلى جسده يوميا، فأية حياة تلك التي نعتقد أننا نحياها؟ أو أي موت هذا الذي نسلم أنفسنا إليه بغباء نادر، وغفلة تنافس التخلف العقلي في أعلى درجاته؟!!
ما الذي يشغل عقل شاب في العشرينات أو رجل في الثلاثينات أو الأربعينات أو فتاة أو امرأة في نفس العمر؟! ما هي اهتماماتنا وقضايانا ومحاور أحاديثنا؟!!
الملايين التي تجلس على المقاهي، والملايين من القابعات في البيوت يلعبن بالموبايل أبو كاميرا، أو يمارسن الشات العاري، أو يعتقدن النجاة في ارتداء النقاب الأسود، وأن السلامة في التعاويذ وترديدها، وأن صلاة المرء تكفي رغم تفاهته وخواء رأسه ووقته؟!!
أقول هذا وفي ذاكرتي هذا الفيلم الرائع الذي شاهدته ضمن مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الأخيرة، والفيلم على مستوى عالي جدا فيما يخص التصوير والصوت والألوان والإعداد والمعلومات، وهو يعرض الكوارث التي نقترفها في حق الأرض التي أورثنا الله سبحانه واستخلفنا فيها فإذا بنا نحقق نبوءة الملائكة: "قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، ووصف الإنسان في قوله: "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل"
ولو كان الأمر بيدي لأخذت هذا الفيلم وقمت بعرضه في كل مدرسة وكلية وجامعة لينتبه الناس ويكفوا أيديهم عما يقترفون من آثام في حق الأرض، وفي العالم المتقدم ماديا ودنيويا تتشكل جماعات ومؤسسات، ودوائر الاهتمام حول ممارسات وأفكار ومعلومات سلامة الإنسان والحياة، بينما نحن نطلق على هذا العالم الذاخر من النشاط اسما مضحكا، وأقمنا له جهازا مضحكا لا حول له ولا قوة، ووزارة هامشية بلا سلطة تقريبا، ولو سألت مائة شاب أو شابة عن اهتمامهم أو اهتمامهن بالبيئة (كما نسميها) لانفجروا ضاحكين أو مندهشين لأنهم يهتمون بأشياء أهم مثل تلوين الوجوه بعلم مصر ورفعه في المباريات، وإطلاق الزمارة: بيب...بيب...مصر!!!
لو كان الأمر بيدي لأخذت هذا الفيلم وعرضته وأصررت على تصبير المشاهدين عليه لأنه طويل "بعض الشيء"، فهو موجه لمن لا يعرف شيئا البتة عن الموضوع، وكافي أن يجعله يعرف ويفهم، وربما يتحمس ويتحرك ليفعل شيئا إيجابيا من أجل حياته وحياة من حوله!!
أبحث عن نفس هذه الاهتمامات الأساسية بالحياة والإنسان والأرض في برامج أحزابنا وجماعات الدين الإسلامي أو المسيحي، والأسر الجامعية والبرامج الفضائية العربية، ولن تجد شيئا تقريبا أو ستجد شيئا هامشيا منزويا على استحياء في شكل مقال أو برنامج غالبا لا يراه أحد، ولا يهتم به أحد!!
هل هي عويصة أو ملغزة أو مزعجة مسألة شرح أن هذا الاهتمام يأتي في صلب واجبات كل فرد وحقوقه؟!!
هل هي قفزة مفتعلة أن يقف من يصدعون رؤوسنا بقنوات تقول أنها دينية دون أن تذكر تخريب الحياة والأرض بكلمة؟! هل هي مسألة صعبة أن يشرحوا للناس الخطورة والعلاجات؟!!
هل هي معضلة أن يجد برنامج مثل الإسلام وقضايا البيئة مادة ليتناولها كل يوم، وما أكثر القضايا التي يمكن أن يتناولها؟! وهل يستمع إليه أحد أصلا؟!! (إذاعة القرآن الكريم) من يجرؤ على أن يقول لهؤلاء جميعا أنهم يميتون علينا ديننا ودنيانا، ومن يجرؤ على مواجهة القطيع بأنهم موتى بنعش واحد يدعى الوطن، أسمى سمائه كفن، بكت علينا الباكية، ونام فوقنا العفن (كما يقول أحمد مطر) من يضع لنا قائمة الأولويات والموضوعات.؟! ومن يحدد لنا أين الرأس؟! وأين النعل؟! ومنه يقرر الأهم والأقل أهمية؟ من الذي يلقي بالقاذورات في الشوارع؟! ومن الذي يلوث ماء النيل؟!! ويصرف المجاري في مائه الطاهر الطهور فيتحول إلى مستنقع سم، وبحيرة تلوث قاتل للبشر والزرع والسمك؟!! ثم يذهب ليركع ركعات ويحسبها تنجيه!!
وإذا كانت الدولة هي المسئولة عن سلامة ماء الصنبور فمن الذي كسر لنا القلة؟! من غيرنا يختار لنفسه هذه الحياة التي تشبه الموت، أو الموت أفضل منها، وأكثر شرفا وصراحة؟!
لو كان الأمر بيدي لزرعت في كل نصف متر من أرضنا شجرة، ووضعت تحتها على كل ناحية قلة، ولجلست في ظل نخلة أستمتع بطعم التمر المتساقط منها في حليب معزة شهي، وأنا أعلم الأطفال كيف يحبون مصر بجد!!!
استمتع بمشاهدة الفيلم المذكور على: www.goodplanet.org
وللمزيد عن الاحتباس الحراري: www.350.org
وقد حدثت تظاهرات وفعاليات وأنشطة محدودة في مصر تجاوبا وتزامنا مع قمة المناخ المنعقدة حاليا في كوبنهاجن، وأرجو أن تكون مدونتي هذه مساهمة ـــ ولو متواضعةـــ في الموضوع.
واقرأ أيضًا:
على باب الله: الأمة هي الحل: مشاركة، ودعوة للاجتهاد/ على باب الله: قها