السلام عليكم ورحمة الله؛
أستاذي الفاضل، كنت اليوم أحضر إحدى الدورات اللازمة للترقية وكان معنا أربعة أساتذة مساعدين من قسم الطب النفسي وحينما أرادت المحاضرة أن تضرب مثالا ل Social Sciences أو علوم اجتماعية فقالت مثل الطب النفسي، وهنا هاج الأساتذة النفسانيون وأصروا على مقاطعة المحاضرة للتأكيد على أن الطب النفسي هو Medical Science، وبغض النظر عن رأي المحاضرة (والذي لا أتفق معه) إلا أن ما لفت انتباهي هو ما أصر الأطباء النفسانيون على شرحه لنا من أن الطب النفسي هو طب يتعامل مع Organic Diseases (أي أمراض عضوية) كبقية أفرع الطب الأخرى.
وحينما كررت عليهم المحاضرة السؤال هل هي أمراض Organic Purely (عضوية تماما) مثل بقية الأمراض الأخرى قالوا نعم وتعالج بدواء مثل تلك الأمراض وقالوا بالنص "احنا بنتعامل مع Diseases of The Brain" (أي مع أمراض المخ)
وحينما قالت المحاضرة خلال حديثها أن أنسب شخص يمكن أن يعمل في مجالات الإرشاد للطالب هو الطبيب النفسي رفضوا بشدة وقالوا أن الطبيب النفسي لا يقوم بتحليل مشاكل المريض كما يتخيل الناس وأنه فقط طبيب يعطي دواءاً لمريض وأن مدرسة التحليل النفسي هي مدرسة فرويد والتي انتهت ولا يعمل بها الأطباء وأن قدرة الطبيب النفسي في دعم الطالب مثلا كمرشد تتشابه مع قدرة غيره على ذلك وتعتمد على اختلاف الشخصيات وليس لها علاقة بكونه طبيبا نفسيا.
ما مدى دقة هذا الكلام؟ والتقائه مع فكرة العلاج النفسي Psychotherapy؟ والعلاج المعرفي السلوكي؟
أشكرك
نرمين
الزميلة الفاضلة أهلا بك.... الكلام الذي سمعتِه من زملائي الأطباء النفسانيين هو كلام ينادي به كثيرون من الأطباء النفسانيين الذين يقصرون رؤيتهم للظاهرة النفسية المعرفية على أنها كيمياء ويكاد يظن بعضهم أن المخ يفرز الأفكار كما يفرز الكبد العصارة الصفراوية...
هؤلاء الزملاء هم الذين كتب عنهم أخي الأكبر أ.د محمد المهدي متسائلا: طبيب نفسي أم طبيب كيميائي؟ لا علاقة لهؤلاء بطرق العلاج غير المادية None Physical Therapies (مثل كل أنواع العلاج النفسي التحليلي Analytical Psychotherapy أو المعرفي السلوكي Cognitive Behavioral Psychotherapy أو البين شخصي Interpersonal Psychotherapy أو الأسري Family Psychotherapy أو الجماعي Group Psychotherapy) وهم يعتبرون أنفسهم غير مسئولين عنها... وبعضهم ينصح الناس بعدم اللجوء لها أي عدم اللجوء لأي من طرق العلاج غير المادية.
هؤلاء الزملاء من الأطباء النفسانيين مع الأسف الشديد يتحركون كرد فعل ضد عدة أشياء منها الفهم الخاطئ لدى قطاعات كبيرة من الناس أن الطبيب النفساني يتخرج من قسم علم النفس بكلية الآداب أو التربية...... وفي هذا خلط بين الطبيب النفساني والأخصائي النفساني وهم لذلك يودون التأكيد على أنهم أطباء كزملائهم الأطباء في كل شيء هم فقط يتعاملون مع أصعب جزء في الإنسان وهو النفس والشخصية والعقل أو هو المخ بعين الطبيب المتخصص...... ويدعم توصيفهم هذا جدا أن تكون الأمراض التي يعالجونها عضوية 100% مثل الأمراض التي يعالجها زملاؤهم الأطباء في مختلف التخصصات...... لهذا كان التشديد على أنها عضوية 100% .....
والحقيقة أن هذا الكلام صحيح أي أنها أمراض عضوية 100% إذا كان المقصود بعضوية 100% هو أنها تصاحبها تغيرات كيميائية نفهم بعضها -ولا نفهم معظمها- ولكننا لا نستطيع الجزم بأن هذه التغيرات الكيميائية هي السبب وليست فقط إحدى ظواهر المرض مثلها مثل الأعراض والعلامات Signs and Symptoms والفرق بين الحالتين هو أن اعتبارها سببا يختزل الإنسان بشكل مخزٍ إلى جهاز كيميائي!
فعلا أصبح من يستخدمون العلاج النفسي الفرويدي التحليلي Psychoanalysis قلة متناقصة ولكن طريقة مدرسة التحليل النفسي في العلاج لم تندثر لتفتح الباب فقط للعقاقير وللكيمياء كما يقولون، وإنما أساسا لتفتحه لنظريات أخرى من أهمها النظرية المعرفية السلوكية Cognitive Behavioral Theory التي تقدم وسيلة علاجية غير مادية غالبا ما تعطي نتائج أكثر إيجابية بمراحل من العقاقير وغيرها مما يتمسك به معظم الأطباء الكيميائيين لا لشيء إلا لكونه الأسهل والمريح للأدمغة والسريع الأثر غالبا.. وغير المضيع للوقت والموفر تماما للجهد من جانب الطبيب.... ويمكنك المقارنة بين 10 دقائق على الأكثر لكل مريض (فيستطيع تقديم خدمته لستة مرضى في الساعة بحوالي 50 مريض يوميا) ثم كتابة عقاقير ترعاها وتكافئ بها شركات الدواء بسخاء، وبين من يعطي 40 إلى خمسين دقيقة لكل مريض (فيستطيع تقديم خدمته لعشرة مرضى على الأكثر يوميا) ثم يقدم علاجا لا يرعاه أحد ولا يكافئ به أحد غير الله تعالى ثم المرضى أنفسهم كالعلاج المعرفي أو السلوكي أو الجماعي أو التحليلي.
ولأنه صار من المشهور الآن أن العلاج المعرفي السلوكي يعطي المريض ما لا يستطيعه العقار دائما وهو على الأقل منع الانتكاس Relapse Prevention ، نرى بعض هؤلاء الأطباء يتنصلون من وجوب تعلمه ويدعون أن عصر العلاج النفسي غير المادي انتهى وهذا كذب..... ويجب أن يكون واضحا أن ليس كل العلاج النفسي تحليلا نفسيا كما يحاولون كثيرا إفهام الناس.... وبعضهم يرضى بأن يُشْرك معه أخصائيا نفسانيا إكلينيكيا مدربا ليقوم بعلاج المريض الذي يطلب الجلسات وهذا طيبٌ إذا تابع الطبيب الأخصائي فحدث نوع من التكاتف بين العقاقير وجرعاتها وبين عملية التغير العلاجية وليس طيبا إذا قصر الطبيب نفسه على الجوانب الطبية البحتة فتصبح العقاقير في وادٍ والعلاج النفساني في وادٍ غيره مما قد يكون سببا في الفشل أو الاكتفاء بالعقاقير في النهاية كطريق أقصر وأرخص للمريض وأكسب للطبيب والحقيقة أن فيه حرمانا من الحق بالوعي بالتغير الذي يصاحب التحسن والشفاء..
ولا أدري كيف يؤكدون على أن تخصصهم -الذي هو أحد فروع الطب يعالج أمراضا عضوية جسدية- ليس من العلوم الاجتماعية Social Sciences بينما طب النفس تخصصهم في الواقع هو طب يعنى بقناة وأداة الارتباط بين الجسد والمجتمع البشري بل هو أحد أشمل حلقات الارتباط بين الطب والمجتمع.... ولا يستطيع هذا الفرع من الطب الوجود أصلا دون الاستناد إلى علمين أساسيين من العلوم الاجتماعية وهما علم النفس وعلم الاجتماع إلا أن المشكلة التي تواجه الزملاء هو خوفهم على مهنة الطبيب النفساني من أن يدعيها المتخصص في علم النفس المرضي أو علم الاجتماع المرضي فهم لا يريدون أن تختلط طريقتهم في علاج المرضى بطرق آخرين ليسوا أطباء.
ولست أدري لماذا يحاولون الإصرار على أن الطبيب النفساني ليس أكثر من طبيب كأي طبيب في مسألة الدور الاجتماعي وبأنه ليس أعلم بالنفس البشرية وتفاعلاتها الاجتماعية من غيره..... ففي أي شيء هو أعلم؟ هل في التغيرات الكيميائية في المخ؟ لا أدري ماذا أقول... وكيمياء المخ وتغيراتها هذه رغم كل ما أحرز فيها من معرفة ما تزال مفيدة أكثر ما تكون مفيدة لشركات العقاقير والأطباء والمرضى المعالجين بالعقاقير لكنها لا تفيد عامة الناس في المجتمع على الأقل في حدود ما هو معروف منها تبقى مسألة طبية ومعلومة طبية.... ويحدث هذا التخلي من الأطباء النفسانيين الكيميائيين بينما يوضع المشتغلون بعلم النفس من المجتمع الحديث في مكانة من يستفتيهم الناس في شتى أمور الحياة.. ولذلك لا تستبعدي يوما أن تسمعي أحدهم يقول أن لديه عقاقير لعلاج البخل وأخرى للحب وأن الكيمياء هي التي تحكم تصرفاتنا وصفاتنا.... بحيث تكتمل حلقات الرؤية المادية للكون.
على كلٍّ ربما أقول ملخصا موقف هؤلاء الزملاء: باختصار، الأطباء النفسانيون أو معظمهم يهربون من دورهم الاجتماعي خشية أن يطلب منهم ما لا يحسنون أو يحسنون بقدر ما يحسن غيرهم أو خشية ما فيه وجعٌ للدماغ...... ولسان حال الواحد منهم يقول: إرشاد للطلبة؟ لهذا الحد؟ أنا دكتور والله دكتور!
وبالتالي يصبح واضحا سبب سعي الأطباء النفسانيين في اتجاه التمسك بالسببية العضوية للأمراض النفسية والتأكيد على تغيراتٍ تحدث في المخ ولو على مستوى الوظيفة فقط دون التركيب أو على مستوى الوظيفة والتركيب فهم بذلك يثبتون أنهم أطباء يعالجون أمراض المخ..... ومن الطريف في هذا الصدد أن النفسانيين الكيميائيين سلموا أمراضهم التي يعالجون إلى زملائهم في التخصص اللدود "طب المخ والأعصاب أو طب الأمراض العصبية Neurology "... فهؤلاء يعرفون أنفسهم بأنهم أطباء المخ والأعصاب الذين يعالجون أمراضهما بالطرق الطبية لا الجراحية وبالتالي فإن كل مرضٍ يثبت أنه مرض عضوي من أمراض المخ العضوية هو ضمن إطار تخصصهم فهم أولى بعلاج الاكتئاب لأنه تغير في الكيمياء وفي التركيب حتى في المخ، وهم أولى بعلاج السبه Dementia (عته الشيخوخة أو ألزهيمر)... وبهذا ربما نصل يوما إلى أن ما كان يفترض أن يمارسه الطبيب النفساني مقسوما بين أساتذة علم النفس من جهة وأطباء الأمراض العصبية من الجهة الأخرى ولا داعي للطب النفسي أصلا كتخصص.
كذلك فإن مسألة أن الأمراض النفسية هي أمراض المخ سيتفق معنا فيها معظم الأطباء النفسانيين ببساطة لأنهم درسوها كعلم مسند ومبرهن وهو منطقي في ذاته، وأحسبه كان سينمو الاقتناع به دون أي مساعدة من شركات إنتاج العقاقير العلاجية لأنه كما قلت منطقي غالبا، إلا أن لي رأيا ينمو معي أثناء ممارستي للطب النفسي، جوهر هذا الرأي هو أن قصر بحثنا عن التغيرات الجسدية المصاحبة للأمراض النفسية على كيمياء وفيزياء المخ -وهو التوجه الذي تدعمه شركات إنتاج الدواء- هذا التوجه هو تضييق من نظرتنا للاضطراب النفسي الذي هو أشمل جسديا بكثير ولعل أبحاثا تركز على التغيرات في كيمياء القلب المصاحبة للأمراض النفسية في يوم ما تبين لنا قدر غفلتنا... وهذا حديث يا د. نرمين ذو شجون لن أطيل فيه.
أتمنى أن أكون قد جمعت شيئا من لمحات الصورة التي ما تزال تتشكل داخلي لرؤيتي الشخصية لواقع حال الناس وحال التخصص الذي أحبه سواء كان طبيا.... أو كان اجتماعيا! ولعلنا نستمر في النقاش على مجانين.
واقرأ أيضًا:
مصر كلها الآن محبطة كيف الجزائر؟/ ليلة عيد الفطر ...1431 هجري 2010م