في بعض المؤسسات التعليمية.. وجدت لوحة كبيرة مكتوباً عليها عبارة فارهة تقول: (وطن يعيش فينا ونعيش فيه).. وقد رُسم على تلك اللوحة خارطة المملكة... هل يُمكن فعلاً للوطن أن يعيش فينا قبل أن نعيش فيه؟.. هذا السؤال يقودنا إلى تقرير أن الحديث عن مسألة المواطنة يجب أن يكون منطلقاً من أسس علمية صحيحة، بعيداً عن (الشعاراتية) التي قد تصل إلى لون من التفكير العشوائي.. أو الرغبوي.. أو حتى النفاق الاجتماعي الذي لا قيمة له سوى ما يعتقد صاحبه أنه سيحصل على مقابل له!
الوطنية كتلة من المشاعر (الإيجابية) تجاه الوطن.. إنها مشاعر (جبلية) و(مكتسبة)، تنساب من الإنسان تجاه الأرض التي وفرت له موضعاً (آمناً).. لكي يهبط برأسه وروحه وجسده.. نعم هي كتلة مشاعرية واحدة تنبع من (المواطنة)، التي تقوم على أساس علاقة تعاقدية بين المواطن والوطن، يُعلي فيها الوطن من كرامة المواطن ويحفظ له حقوقه، في وقت يقدّم فيه المواطنُ كلَ ما يملك لوطنه، وفق منظور إنساني تشريعي يتأسس على العدالة والتكامل في الحقوق والواجبات.. وذرات الوطنية تتكثّف من جراء عوامل متعددة، تتضافر فيما بينها وتتحاشد وتتكامل في صورة تجتهد لأن تتخذ من الألوان (العنيدة) أداة لإبقائها وتثبيتها، ويُخطئ من يتصور -من المثقفين وغيرهم- أن ثمة عاملاً واحداً هو المسئول عن تكثُّف ذرات الوطنية في عقل المواطن ووجدانه، ومن أولئك من يتوهم أن (تذكير) المواطن بالإنجازات (المادية) التي تحققت هي السبيل الأوحد.. أو الأكثر فعالية في بناء الوطنية.. أو المواطنة الصالحة.. أو المنتجة.. فالجانب المادي له أهميته بلا شك.. غير أنه قطعاً ليس هو الأهم، وثمة إشكاليات كبيرة -في رأيي- تترتب على (تغليب) الجانب المادي، ومن ذلك بروز ما يُمكن أن نسميه ب(الوطنية المترفة)، فمن يكتب في (يوم الوطن).. ويحصر (تعبئته) الوطنية في ممارسة (وعظية) تذهب إلى وجوب أن يتذكر المواطن ما حصل عليه من التعليم والصحة والطرق والخدمات.. في مقارنة بانورامية بين ماضٍ متواضع.. وحاضر مزهر، هذا المدخل يؤدي إلى (الوطنية المترفة).. فهو يعني بالتلازم أننا سوف نتفاوت في (الوطنية) وفق ما يحصل عليه كل واحد منا.. فمن يسكن في قصر فاره.. غير الذي يسكن في بيت بئيس، ومن يقبض راتباً قدره 2500 ريال.. وهو يعول 10 أولاد.. غير ذلك الذي يتقاضى 40000 ريال أو أكثر، ومن يركب سيارة متهالكة موديل 86 غير الذي تدير يداه أثمن السيارات.. التركيز على الجوانب المادية يعني أننا سننجح في ترسيخ المواطنة لدى الطبقات (المرتاحة) وبنسب عالية.. في حين سيزهد أبناء الطبقات (التعبانة) في تحصيل الأرصدة المرتفعة من الوطنية.. والطبقة الفقيرة بجانب الطبقة العادية تُشكِّلان نسبة لا يُستهان بها في أرض الوطن.. ومُؤدى ذلك النهج المادي أنه سيتخلّق لدينا (وطنية مترفة)، وهذه مسألة خطيرة للغاية!
ومما يؤسف له أن الدراسات النفسية والاجتماعية السعودية فشلت إلى حد كبير في دراسة تراكمية للكثير من الظواهر النفسية والاجتماعية السعودية.. ومن ذلك -مثلاً- دراسة قضية الهوية وأبعادها، ويدخل في ذلك أيضاً إخفاقنا الجلي في تحديد (ماهية) المواطنة.. فضلاً عن تشخيص و(اصطياد) السمات (الحرجة) في مسألة الوطنية.. وتحديد العوامل ذات التأثير الجوهري في بناء المواطنة وترسيخها وصيانتها باختلاف الطبقات والفئات والمستويات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والعمرية.. في ضوء ما تفرزه العولمة من إشكاليات معقدة في هذا الخصوص.. والحقيقة الدامغة أن ذلك فشل يُسجل بكل جدارة واستحقاق للأكاديميين السعوديين!
ذلك الإخفاق سيُلجئنا كالعادة إلى الاغتراف (المستمر) -غير الذكي-! من سلة الفكر الغربي حيال قضية لها خصوصية شديدة، فلو قلبنا الأدبيات فسنجد العديد من النتائج الهامة والمؤشرات العامة التي يمكن الاستئناس (الحذر) بها، ومن ذلك ما جاء في تعريف المواطنة -وفق دائرة المعارف البريطانية- تتجسد في: (علاقة بين الفرد والدولة يحددها قانون تلك الدولة، وبما تضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة.. وعلاقة الفرد بالدولة هي علاقة نظرية بين طرفين، شخص طبيعي هو الفرد.. أو المواطن.. وكيان معنوي سياسي هو الدولة)، وتشير الدائرة البريطانية إلى وجود عدة أسس للمواطنة أهمها:
أن يُظهر الفرد الولاء والانتماء للدولة.. مقابل أن تلتزم الدولة بتوفير الحماية والأمن للفرد بموجب عقد اجتماعي أو ديني أو كليهما، تتحدد بموجبه الحقوق والواجبات على كلا الطرفين، وتحقيق العدالة والمساواة أمام القانون، والمشاركة في الجماعة ومسائل الشأن العام.. ونعاود التأكيد على أن الوطنية تتأسس على البُعد الوجداني أكثر من البُعد المادي، فالوطنية في جوهرها اتجاهات إيجابية شبه دائمة تجاه (وطن) يضمن له (حياة كريمة) في وسط اجتماعي يحتضنه ويرعاه ويحترم (إنسانيته) ويقدم له شيئاً (يفخر) به و(يفاخر)، فالوطنية تترسخ من خلال شعور الفرد بأنه (غالٍ) على وطنه.. وبأنه ضمن مقدرات الوطن التي يحافظ عليها الوطن من خلال تشريعاته ومؤسساته وطقوسه الوطنية.. فسلوك موظفي السفارة السعودية في بلد ما قد يُنمي مشاعر (الفخر) بالوطن وقد يضعفها.. وعدالة التشريعات ونزاهة تطبيقها قد ترسخ معاني (العدالة) وقد تضعفها وهكذا.. هذه هي العوامل التي تكرس الوطنية الحقّة التي ننشدها.. ولعلي أكون صريحاً في ممارسة نقدية لوسائل الإعلام التي قد تمارس من حيث لا تشعر نوعاً من التشويش أو الخدش ل (كبرياء الوطنية)، ومن ذلك أن بعض القرارات التي تصدر من قبل الحكومة تلبّس رداءً لا يليق بها، فكلمة (مكرمة) -مثلاً- هي (اجتهادات صحفية غير موفقة)، فالقرار ليس في حيثياته أو مسوغاته ما يشير إلى صدوره من جانب (المكرمة)، بل إن عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- يقول بأن ذلك من واجبنا -كحكومة-، ومع ذلك تخرج علينا الصحافة بالقول بأنها مكرمة، وذاك أمر يخدش كبرياء الوطنية من جراء خلق مشاعر (المنّة) في مسألة يرى المواطن أنها من حقوقه الأساسية.. مما يجعلنا نطالب بإعادة النظر في مثل تلك الممارسات، فضررها أكبر من نفعها!
ونظراً لأنني غير متفائل -على المستوى المرحلي- بتحسن الأداء البحثي للأكاديميين السعوديين في الحقول النفسية والاجتماعية -لأسباب كثيرة ليس هذا مجالها- فإنني أرى أهمية التفكير الجاد بتأسيس مركز بحثي متخصص في (الوطنية) و(الهوية)، فوطننا الذي نعشقه يستحق هذا وأكثر.. وهنا تلح عليَّ كلمة ترن في أذني للفنان الكبير عبد المنعم مدبولي -رحمه الله- في فيلم: (عايز حقي) قالها لمن أرد أن يبيع وطنه، فقد صرخ به قائلاً: (بيع يا عواد.. بس قبل ما تفرّق الفلوس لف العالم كله.. وحاول تشتري وطن.. مش حاتلاقي.. مش حاتلاقي حضن دافي زي هنا)!!
واقرأ أيضاً:
ضرورة التأسيس المعنوي للكيان الوطني! / صناعة النفاق الاجتماعي!