أرسلت الأستاذة رفيف الصباغ تقول: السلام عليكم يا دكتور أحمد:
جميل جدًا أن يطرح مثل هذا الموضوع للنقاش على مجانين، ومع من يحسن النقاش والتفكير...
واسمحوا لي بهذه المداخلة في الموضوع...
دعوتكم للتعرف على أفلام السينما، يراد منها دعوة الناس للتعرف على الصناعة الفنية الجيدة المبدعة، وتذوقها، والتمييز بينها وبين الأفلام المطروحة في الساحة على التلفاز بين أيدي العامة، والتي تفتقر إلى الفن قبل أن تفتقر إلى الأخلاق...
النقطة التي أشترك فيها معكم: أن الفن -بجميع أنواعه- فيه الجيد المبدع وفيه الرديء، وأن الفن المطروح لا يمت للفن بصلة! وكثيرًا ما نقرأ ونسمع تعليقات من المغنين، والملحنين القدامى –وأضرابهم، ينقدون فيها الفن المطروح، ويعلنون أنه يفتقر إلى أدنى المقومات الفنية.
والحقّ معهم أن ينتقدوا وأن يغضبوا مما يجري ويطرح، فكل مخلص متقن لعمله واختصاصه، لا يستطيع أن يتحمل الإساءة فيه...
وأثناء إعدادي لرسالة الماجستير رجعت إلى كتاب "فلسفة الموسيقى الشرقية" لـ: (ميخائيل خليل الله ويردي)، من أجل التعرف على الموسيقى والألحان عن قرب، ومن خلال كلام المختصين المبدعين فيها. وبغض النظر عن نظرتي للموسيقى، لا أخفي إعجابي بإتقان صاحبه لعلمه، ولاعتنائه بقواعد الفن، وأصوله، وموهبته في تذوق الموسيقى... والعمل الجيد المتقن يبقى ويكتب له طول البقاء أيًا كان مجاله...
وكان مما لفت نظري فيه، كلامه عن البلاغة الموسيقية وقد عرفها بأنها: (مطابقة مسموع اللحن لمقتضى المعاني المقصودة منه). ثم ينكر بشدة استعارة الألحان من أنشودة لأخرى عند تطابق الوزن، وبخاصة استعارة الألحان الغرامية، وتطبيقها على الأناشيد الدينية، وقال: (فكل ما جرى من الألحان على هذا المنوال، لا يحوي شيئًا من البلاغة الموسيقية لعدم مطابقته لمقتضى الحال..).
الكلام العلمي الصحيح يشعرني بالنشوة، وأقبله أيًا كان قائله، وأيًا كان موضوعه، وهذا كلام يكتب بالذهب من مختص عريق في الموسيقى الشرقية...
ولكن: (أجارنا الله من: لكن)!
- كم عدد الذين يملكون القدرة على تذوق الفن؟ لا بدّ أن هذه موهبة لا يملكها كثير من الناس! وإلا لما تميّز المتذوقون عن غيرهم! وكم عدد الذين يمتلكون القدرة على النقد الصحيح؟ ويتفرجون بغية الاستفادة والتحليل وصقل الذهن والموهبة؟ فهل يصح أن ندعو جميع الناس لدخول السينما، والمستفيدون من ذلك قلّة بينما الآخرون لا يدخلونها إلا إضاعة للوقت –على أحسن تقدير-؟!
- هل يصح لنا أن ندعو الناس لمشاهدة السينما؟ لا أنكر أن الناس ينظرون إلى ما هو أسوأ من السينما، ولكن، هل يحق لنا نحن أن ندعو إليها؟
هذا السؤال الذي أريد أن أطرحه على حضرتكم، الجواب حسب القواعد الشرعية –وأنتم تعلمون ذلك- أن المادة المعروضة في السينما والتلفاز وغيرهما هي التي تحدد الإجابة...
ترى ما الذي يعرض؟ بالطبع أشياء غالبها فيه نظر من الوجهة الشرعية، وكثيرًا لا ينتبه الناس لها!! فمن هذا الذي يخطر في باله أن نظره للنساء -وهن غير مستترات بالستر الشرعي- لا يحل له؟ حتى مذيعات الأخبار عليه أن يغض بصره عنهن! ومن هذا الذي يخطر في ذهنه أن للقصة المعروضة أحكام شرعية، فالتمثيلية التاريخية لها أحكام، والقصة التي من نسج الخيال لها أحكام، والكوميديا لها أحكام.... ولم أرَ شيئًا مما يعرض قد التزم بذلك، وهذا طبيعي! وإذا كان التمثيل يحوي المحرمات، فالنظر إلى الحرام حرام؟ من هذا الذي سيعجبه كلامي، ويقتنع أنني أنقل أحكامًا شرعية، كان ينبغي أن تطبق؟ (لكن هذا لمَّا يحصل)...
يأتي السؤال: هل نبقى معزولين عن ثقافة الآخرين؟ إن الذي تقتضيه الأحكام، أنه إذا احتجنا إلى النظر إلى أفلام الأمم الأخرى لمصلحة معتبرة في الشرع، مثل إجراء دراسة عليها لبيان ما فيها، أو إعطاء حكم يتعلق بها، فإن هذا يجوز للدارس بقدر الضرورة، ولكن لا يجوز لغيره ممن يتفرج لمجرد المتعة!!... كذلك لنفرض أن الجهات المسؤولة وضعت شخصًا لمراقبة الأفلام والسماح بعرض ما كان منها مقبولاً شرعًا، فإن هذا لا يمكنه أن يقوم بمهمته قبل أن ينظر ويتفرج... لهذا يمكن أن نقول: إن نظره إلى تلك الأفلام جائز... ولا تتخيلوا أن هذا الحكم يقصينا عن مواكبة الآخرين، فأنا أطبقه وسأفصل ليتضح الأمر:
كان موضوعي في الماجستير عن "حفل الزفاف، ضوابطه وأحكامه في الفقه الإسلامي" وبما أنني لم أحضر سوى أعراس تعدّ على أصابع الكف الواحدة لالتزامها بقواعد الشرع، فقد كنت أجهل تفصيل ما يجري في الحفلات، أو على الأقل لا أتصوره بشكل جيد... لهذا فأنا مضطرة لرؤية ما يجري.. وكان السبيل إما أن أحضر... ويترتب على ذلك محاذير كثيرة بالنسبة لي، فعدا حضوري مكان المعصية، سيصبح حضوري قصة تنشر بين الأقارب، وسيبدؤون بمحاسبتي: لماذا حضرت عرس فلانة، ولم تحضري عرسي؟...
والحل الآخر: أن أشاهد أفلامًا مصورة لحفلات قريباتي وصديقاتي... وفعلاً: ذهبت إلى اثنتين ونظرت إلى الحفل، ولكني كنت لا أركز نظري على العورات البادية.. كذلك أسكتُّ الصوت، أو خفضته جدًا حتى لا أسمع الغناء، وأنا لا أحتاج لسماعه في بحثي، ثم كنت أمرر مشاهد الرقص الخليع تمريرًا سريعًا، بعد أن رأيت مقطعًا صغيرًا منه... وبعد أن نظرت إلى حفلين، شعرت أنني كونت فكرة جيدة عن الوضع، فاكتفيت بهذا ولم أعد أنظر إلى غيرهما... وتابعت جمع المعلومات عن طريق وصف الأخريات، والآخرين للحفلات، أو عن طريق المؤلفات التي كتبت في ذلك... تعرفت إذن على الوضع ولم تفتني المعلومة والتحليل والنقد، دون أن أقع في محظور... كذلك إن كنت في الحافلات العامة، أسترق السمع إلى بعض كلمات الأغنيات التي يضعها السائق، لأتعرف ما الذي يستمع إليه الناس؟ وما الذي يقوم بتشكيل ثقافتهم، ولأستوعب حقيقة حياتهم، من أجل مخاطبتهم...
أيضًا أسترق نظرات سريعة إلى بعض التمثيليات، أو أغاني الفيديو كليب، عند زيارتي لبعض الأقرباء، أو وجودي في شركة أو دكان يضع شاشة عرض... (باعتبار أن التلفاز غير موجود في منزلي)، وكل ذلك لأجل فهم الواقع الذي أحتاج أن أفهمه... بل مرة رأيت فلمًا هنديًا كاملاً للتعرف على ثقافتهم أيضًا، وعلى مدى تأثر فنهم الحالي بالفن الغربي وتغيره عما كان سابقًا، وغير ذلك... لكني بالطبع كنت أسكت الصوت عند الأغنيات التي تكثر في الأفلام الهندية، وأتجنب مشاهدة المشاهد المخلة بالأدب والأخلاق.... وفعًلا تكوّن عندي بعدها فكرة جيدة عما كنت أرغب في معرفته...
أخبروني الآن: كم عدد الذين سيلتزمون بمثل هذا ممن تدعونهم إلى دخول السينما؟ أو مشاهدة الأفلام عمومًا؟ هل ستتحملون مسؤولية ما يمكن أن يشاهدونه أو يسمعونه من المعاصي دون أدنى نكير؟
لهذا لا يمكننا تعميم الدعوة إلى ذلك...
هذا عدا عما في دخول السينما في هذه الأيام من التعرض لمواطن التهم – لا أدري إن كان الأمر مختلفًا عندكم- فلا يدخلها عندنا إلا أسوأ الناس.... وبالنسبة لي شخصيًا لو دخلت الآن إليها ولو بغرض مقبول، فسيتكلم الناس عني في الصحف والمجلات!! وسيرفضون كل كلمة أقولها...، ومنهم من سيحلل لنفسه الدخول إلى السينما مطلقًا لمشاهدة أي نوع من الأفلام لأن دارسة العلوم الشرعية رفيف دخلت، إذن هذا حلال!!!
الغرض من كل هذا الكلام والثرثرة أن أقول: كلامكم يعمم الدعوة للجميع وهذا يترتب عليه محاذير كثيرة، لها أول وليس لها آخر...
ثم لي ملاحظات صغيرة على بعض العبارات:
- ذكرتم أن الالتزام يؤكد العزلة عن الفن! الالتزام الحقيقي لا يعزل الناس عن الفن، ولكنه يضع له ضوابط خاصة، تعطيه صورة مختلفة عن جميع فنون الأمم الأخرى، وتربطه بالله عز وجل، الذي لا قيمة لشيء في الوجود إن لم يرتبط به، فهو الباقي، وجميع ما سواه يفنى ويضمحل...
وكمثال: لا أحد ينكر جمال الرسم، ولي مع الرسم جولات، لكن فن الرسم الإسلامي له تفصيل خاص بالنسبة لرسم الأحياء، لحكم كثيرة -لا مجال لعرضها الآن- ترى ماذا أثمر هذا التضييق في مجال رسم الأحياء؟ أثمر إبداعًا للزخارف الإسلامية الرائعة المتميّزة عن جميع الثقافات، وفنون الخط العربي واستخداماته، وغير ذلك، ولوحات الفسيفساء الموجودة في المسجد الأموي دليل على ذلك، وكلها لوحات لأشجار ومناظر طبيعية تعبر عن الجنّة!! عدا عن لوحات الخط العربي...
- ثم قلتم: (فلا أدري ما الذي في الحياة لا تشوبه الشوائب؟)...
أسألكم: أليس كل الأدوية لها آثار جانبية؟ لماذا نغض الطرف عن آثار بعض الأدوية، بينما يحظر في البعض الآخر أن يتناولها المريض إلا بعد أن يوازن الطبيب بين المنافع والمضار، ثم يختار الأصلح لكل مريض على حدة؟؟
تقولون: ليست كل الآثار على درجة واحدة من الخطورة على الجسم. وأقول: كذلك ليست كل الشوائب على درجة واحدة من الحرمة والخطورة على الدين والروح، والذي يوازن بين المضار والمنافع أطباء من نوع آخر، هم المتأهلون من علماء الشريعة وفي كل حالة على حدة!!
وقد قال الله تعالى: ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)) [البقرة:219]، ولما كان إثمهما أكبر من نفعهما بإطلاق، حرمهما الله تعالى على الناس جميعًا دون استثناء...
صحيح أن الناس سلموا أنفسهم لشياطين أعتى، ولكن الخطأ لا يبرر الخطأ، والخبيث لا يمحوه الخبيث...
أخيرًا: فإن أمور حياتنا من أولها لآخرها يعود لأصل وجودنا فيها: وهو أننا عبيد خاضعون لله تعالى، نفعل ما يأمر به، وننتهي عما ينهي عنه، حتى وإن اجتمعت المنافع كلها في ذلك المنهي عنه (وإن كان النهي عن النافع لم يحصل في أوامر الله عز وجل، لكن لو فرضنا أنه حصل، فليس أمامنا إلا الطاعة).
وصدقني يا دكتور أحمد، لو لم يكن نصح الناس بالنهوض من كبوتهم، وإعمال عقولهم، واتباع شرع ربهم...، لو لم يكن كل ذلك قد طالبني الله عز وجل به، لكنت أول من يرتع مع الراتعين، ولما رأيتني أكتب حرفًا في إنكار ما يجري... علاقتنا مع الله أولاً وأخيرًا، ولا قيمة لشيء في هذه الحياة بغير هذه العلاقة، وإن غفل عن هذا الغافلون، وسيأتي يوم فيه يعلمون...!!
2/4/2010
الأخت الكريمة؛
قرأت مشاركتك مرات، وانشغلت بها طويلا، ورددت عليها بصيغ مختلفة، ولكن في رأسي فقط!!
ترددت في نشرها والرد عليها لأن المناخ السائد لا يسمح ولا يفهم ولا يستوعب ولا يمارس فضيلة المراجعة، ولا التفكير ولا الحوار النقدي، وفي غياب تقاليد نقدية راسخة يتحول النقد عندنا واستقباله إلى شيء عديم النفع يوغر الصدور أكثر مما يحفز العقول، وبالتالي فكرت أن أصمت، ولا أعلن اختلافي معك جذريا في بعض ما تطرحين، ولكنني كنت دائما أقول لنفسي: أن شيوع عدم الوعي، وقلة عدد الذين يملكون القدرة على تعاطي النقد، ويقرأون بغية التحليل، وهي القلة التي تشيرين إليها في بدايات مشاركتك، هذا الوضع إنما يستدعي مواجهته لا بالحجب، وعزل هؤلاء عن النقد وأجوائه، أو قصر الاطلاع عليه ليكون حكرا على فئة دون غيرها، إنما أرى أن تتاح الفرصة أمام الجميع، لعل وعسى!!
ولا أمل في رأيي ـ يرتجى في مستقبل مختلف إن لم تكن هناك معطيات ومناخات تعين الجميع، وتفتح أمامهم المجال نحو تكوين وعي وذائقة، ودراية ومهارات للعوم في بحار الأكاذيب، والتشويش، والمستجدات التي تحيط بنا في عالم اليوم، وتعالي نستعيد أفكار رسالتك:
٠ أتفق معك في أن هناك فنا هادفا وممتعا وجيدا، وهناك باسم الفن من يطرح لغوا أو قبحا، ولكنني أختلف مع ما أتصوره طرحك في التعامل مع هذه البديهية!!
وأصحح إذا كان كلامي لم يصلك سابقا، إذ أن هدفي ورسالتي أن أساعد الناس في تكوين وجهة نظر، ووعي ناقد يوصلهم إلى بناء مواقف واختيارات في كل تفاصيل حياتهم، والسينما في هذا الهدف مجرد مادة لفتح السؤال، وتحريك الوعي الذي طال رقاده، وتخثر بفعل التسخين والتبريد، وغياب التوجيه والتعليم والتربية، ولا مناص عندي من تدارك هذه الثغرة الفادحة، أي أن غياب القدرة على التمييز بين الغث والسمين، والنافع والضار، والحقيقي والمزيف، والجيد والردئ، هذا الغياب لا يمكن القبول به، ولا التسامح بشأنه لأنه لم يعد ممكنا أن نعتمد أسلوب القطيع، حيث نقبل بالأمر الواقع في بلاهة وغفلة الأغلبية، ونتخارس عن هذا لنتركهم فريسة لانفتاح وتيارات وعواصف تحتاج عقولهم وبيوتهم معتصمين بموقف ربما كان يمثل في السابق وجهة نظر، ولكنه الآن يصبح مشاركة كاملة في الجريمة، وأقصد جريمة ترويج القبح، والأكاذيب، وإفساد الذوق العام!!
٠ إذن أنا أدعو الناس لمشاهدة السينما كهدف، ولا ينتظر الناس دعوتي هذه حتى يشاهدوا، ولن توقفهم تحفظاتك عن المشاهدة فعلا، والحاصل أن تعاطي وتداول الصور والمقاطع المصورة، والفنون البصرية يزداد اتساعا وتعقيدا وتأثيرا، وبعضنا بدلا من الدخول إلى هذا العالم بصحبة الناس ليحلل معهم، ويحاول بناء ملكة العين الناقدة، ما زال مترددا يقلب في المسألة متسائلا: هل يجوز أو لا يجوز؟! ولا يسأل نفسه هل يجوز ترك الناس يتعاطون الصور بغير وعي؟!
وهو في هذا التردد يبدو مقيدا بما يعتقده "قواعداً شرعية"، وهو يعتقدها ثابتة لا تتغير، ويعتقدها على عمومياتها واجبة النفاذ قبل المشاهدة، وهو يردد هذا الكلام في غياب كامل عن تفحص هذه "القواعد" ومراجعتها، وفي غياب كامل عن حركة الناس في الواقع، لأنه ما زال يفكر بعقلية أن تضع الجهات المسئولة شخصا لمراقبة الأفلام، والسماح بعرض ما كان منها مقبولا شرعا، وهو مثال يدل على الغياب عن تصور الوضع الذي يأتي الشرع لضبطه لا لضبط وضع آخر متصورا!!!
٠ إذن الوضع الذي نحتاج لفقه عميق ودقيق وواسع حتى نشتبك معه، وندل الناس على قواعد للتعامل معه، هو أن الناس تشاهد، وستشاهد، والناس صاروا ينتجون صورهم وأفلامهم، ولا يتساءل أحد اليوم: هل أشاهد أو لا أشاهد؟!
حتى يكون هذا هو سؤالنا الذي نصرف طاقاتنا، ونشحذ أدواتنا، ونرتب قواعدنا للرد عليه، السؤال المطروح يمكن أن يكون: كيف نشاهد؟! وماذا نشاهد؟! ولماذا نشاهد؟! ولا يمكننا الإجابة على أسئلة كهذه ونحن لا نعرف حال ما هو معروض على الناس، ولا نعرف تأثير الإفراط في مشاهدة المواد المصورة سواءا تلك التي تحتوي على كشف عورات، أو فحص الصور بأنواع السرد والتقطيع والإضاءة، وكذلك القيم والمعاني المتضمنة في الأفلام، وهذا مجال واسع يحتاج إلى جهد ووقت حتى تتكون لدى صاحب النظر وجهة وذائقة وخطة يفتي على أساسها، ويستطيع أن يطرح رأيا فيما يضر، وما ينفع، آخذين في الاعتبار أن غالبية الناس تشاهد الأفلام من أجل الترفيه، والترفيه والترويح حق طبيعي لبني آدم، وفقهنا في هذا الميدان قاصر للغاية، متوقف عند حدود القواعد العامة، والضوابط الشكلية أكثر من النفاذ إلى الموضوع بتفاصيله التي يعيشها الناس يوميا، ولا أعلم سوى كتابين من تصنيف المحدثين في فقه الترويح على خطورته!! ولعل هناك إنتاجا لا أعرفه.
٠ تربية الوعي والذائقة إذن هي المهمة التي لا مفر منها، ولا يمكن عمل هذا إلا بالمشاهدة والتقييم والمناقشة، ونحن نقوم حاليا بهذا في إطار مجموعة من الأصدقاء على الفيسبوك محاولة يستفيد منها من يريد فهي متاحة، ويحجب نفسه عنها الكسالى، ومن يكتفي بالفرجة!!
وهذه هي دعوتي لكل من يشاهد أفلاما، ولكل من يريد المساهمة في تطوير وعي الناس المشاهدين، أما من لا يشاهد أصلا فلا يهمني أن أدعوه للمشاهدة فهي ليست فضيلة، ولا رذيلة، ولكنها فعل يحتمل المتعة والإفادة كما يحتمل الضرر، والتأثير السلبي، ومهمتي أن أعين المشاهد على تمييز هذا من ذاك.
والناس تشاهد الأفلام على الحاسوب وفي التلفاز وفي أماكن وأحوال كثيرة منها دور السينما التي تتعدد مستوياتها، وجمهور روادها، بحيث يمكن للإنسان أن يختار ظروف المشاهدة، وهو مما يدخل في تمييزه لتفاصيل هذه المسائل إن أراد.
وحتى فإن توجيه الناس إلى قاعدة أن يعرفوا الناس بالحق، لا أن يعرفوا الحق بالناس، فإن هذا يأتي في صميم ما أراه واقعا علينا، فالإقبال على ممارسة نشاط معين أو تركه إنما هو مسئولية فاعله في الدنيا والآخرة، أما تقليد من يفعل، أو البحث عن مبرر أو مسوغ لتصرفاتنا تقليدا لفلان أو فلانة فهذا من صميم ممارسات الإمعة، ونحن مطالبون بتذكير أنفسنا والناس، وإرشادهم إلى غير ذلك.
* وعلى ما تقدم فإن الالتزام الحقيقي يعزل الناس عن الحياة كما تقولين، ولكنه يحفزهم على تناول مستنير بهدي الدين، وممارسة فاعلة، ومشاركة واعية لما تفعله، وفي حالة السينما الإيرانية المعاصرة فإن الإمساك عن عرض العري والعنف دخل بها إلى مناطق ومساحات جديدة، وكذلك نقاشات جديدة حول فلسفة السينما وأطروحاتها في هدي وتصورات ومبادئ ومقاصد الإسلام، وهو كلام يتجاوز مجرد السؤال القديم التقليدي عن صور العورات، وهو نقاش قرأت فيه كلاما نفيسا مترجما عن الفارسية يتلمس تأثير النمط السائد من السينما على التصورات والعقول والأرواح، ويتطلع إلى تطوير سينما مختلفة أنفع وأمتع.
٠ هكذا يا أختي يمكن أن ننهض مع الناس من الكبوة، وهكذا يمكن إيقاظ العقول، شحذ الوجدان، والتدريب على تمييز السليم من الأعوج، والمزيف من الأصيل، والفن المصطنع الرخيص من الفنون الراقية اللازمة لإنسانية الإنسان، وبدون هذا التمييز وحده، وبدون هذا التدريب والتوجيه والتدقيق والتفصيل سيرتع الناس مع الراتعين، وبدون هذا الجهد في التعميق سنكون كمن ينكر الأمر المنكر، ثم هو يكرسه في نفس الوقت حين لا يطرح طريقا للتعامل معه!!
لا مناص من التدريب على النقد الصحيح، والتذوق السليم، وترقية القدرات ليكون كل إنسان على نفسه بصيرة فيما يطالع ويشاهد أو يقرأ، أو يمارس أو يتفاعل، أو يبدد وقته، أو يستثمره، وكلها مهارات يمكن أن نتعلمها، لا مواهب مقصورة على فئة مختارة من الناس، ولا يقتصر هذا الجهد المطلوب على دارسي العلوم الشرعية، فهو أكبر من طاقاتهم وتأهيلهم، ولكن يلزم الحوار والشورى المستمرة لبحث أي موضوع من كل جوانبه، ولتعميق النظر، فيتطرق إلى نواحي سيظل عقل الفقيه وحده قاصرا عن بلوغها، كما سيظل كل صاحب تخصص محدودا بخلفيته وتكوينه، وتتكامل الصورة بالحوار والمشورة.
ولعلك تلاحظين أنني تحاشيت الخوض في تفاصيل المعروض من السينما، وكيفية التعامل معه وفقا لتصوراتي، واجتهادي الناشئ عن المشاهدة والموازنة، والاطلاع على أكثر من مصدر، وذلك لأنك بعيدة عن هذا الميدان، فآثرت أن يكون كلامنا فيما تثيرين من مسائل حول الأمر، إذ لابد من الإلمام بالحال حتى يمكن أن نتحاور في أحكام ما يقتضيه، وتقبلي تحياتي.
ويتبع >>>>> : فيلليني مشاركة1
واقرأ أيضًا
على باب الله: قوة علم النفس: تحية محب / على باب الله: مربط الفرس