أربعــــة أسبـــاب وخامـــس عراقـــــي…
لماذا هذا الولع والهوس بمشاهدة مباريات كأس العالم لدرجة أن طلبة الجامعات طلبوا تقديم الامتحانات النهائية ليتفرغوا لمتابعتها؟ ولماذا البشرية تنشدّ لمتابعة 22 شخصا يتقاذفون كرة بأرجلهم في نشاط يعتمد على مهارة وليس فيه ما يعدّ منجزا «بشريا» يتسم بالإبداع، وليس فيه نظافة وأناقة وجمال ألعاب رياضية أخرى كالجمناستك؟
أطرح السؤال وأنا نفسي أنشدّ وأستمتع بها، وأرى أن ما جعلها بهذا التفرّد أسباب سيكولوجية تخص الطبيعة البشرية وما ورثته من تاريخها الذي يعود إلى مرحلة الصيد قبل ملايين السنين. وما بين مباراة كرة القدم وعملية الصيد شبه كبير، فالصياد يجري وراء الطريدة، ينفعل، ويصوّب، ويسدد، وإن هو اصطادها جرى له احتفال واستقبل استقبال المنتصر. والآلية السيكولوجية نفسها تعمل في لاعب كرة القدم والجمهور، وهذا يعني أن حاجة الانسان إلى «التغلّب» وقهر الخصم قديمة في الطبيعة البشرية، والفرق في طريقة التعبير عنها التي تطورت من الصيد إلى المصارعة الحرّة... الى كرة القدم التي أخضعها التطور المدني لقوانين تضبط الصراع.
السبب الثاني يرتبط أيضا بحاجة متأصلة في الطبيعة البشرية هي نزعة الانسان إلى الصراع مع الآخرين، الذي تطور إلى صراع بين الدول. وفيها أيضا شبه كبير بين ساحة الحرب وساحة اللعب. ففي الأولى جيشان يتقاتلان من أجل فوز أحدهما وهزيمة الآخر، وهذا ما يحصل في كرة القد م. حتى رفع الأعلام! وبهذا الاختراع سجّلت كرة القدم فضلا على البشرية بأن نقلت الصراعات بين الدول من ساحات الحروب إلى ساحات كرة القدم، وإن كانت أحيانا سببا في تأجيجها.
والسبب الثالث هو حاجة الإنسان إلى التماهي بـ«المنتصر». ونعني بالتماهي تمثّل الشخص صفة من الآخر ليتحول كليا أو جزئيا على غراره، وهي هنا الفوز على الخصم والشعور بالزهو وتوكيد الذات الفردية والجمعية التي توحّد الجماهير بصيغة الـ «نحن» وقولها: «غلبناهم، هزمناهم» وتفريغ للعنف وتنفيس للعدوان المكبوت.
والسبب الرابع أن الحياة مملة وأن الدماغ يحتاج إلى تنشيط، وأن كرة القدم بما فيها من ترقّب وتوتّر وصراخ، تزيح عن الدماغ انشغاله اليومي بالهموم، وتنعشه بما تحدثه فيه من انفعالات وإيعازات بإفراز هرمونات منشّطة. (ابتكرت حديثا ألعاب السبايدر والمقص وسكة الموت لإحداث صدمة تجدد النشاط).
واللافت أن العراقيين ينفردون بأسباب إضافية خاصة بهم. فقد حصلت ظاهرة غريبة لمتابعتهم قبل أسابيع مباريات برشلونه والريال، لدرجة أن بائع لبن وزع اللبن مجانا بعد فوز فريقه الريال! رغم أنه من «البياع!». وطاف شوارع مدينة بغداد موكب دراجات هوائية لمناسبة فوز فريق برشلونه! ووعد مدرّس رياضيات بإقامة دورة مجانية للطلبة إذا فاز الريال. وانطلقت العيارات النارية بسماء بغداد لحظة أحرز الريال هدفا، فيما هللت بمكان آخر حين ردّ برشلونه بهدف.
ولا يعود ذلك إلى غياب المنافسة الحقيقية بين الفرق الرياضية العراقية كما يرى رياضيون، إنما السبب الحقيقي هو توالي الخيبات على العراقيين وتكرار الإحباطات التي تولّد لدى الجماهير المحرومة حاجة البحث عما يشفي غليلها وتمنّي مجيء «البطل المخلّص». فضلا عن أن مشاهدة مباريات كأس العالم تفعل في المضنوك ما يفعله المخدّر في المحبط الهارب إليه من واقع خشن. فكيف بالمواطن العراقي إذا كان رئيس جمهوريته ورئيس وزرائه يتقاضيان 150 مليون دينار شهريا! فيما هو يكدح «والعشا خبّاز»... وفي طرق ملغومة بالموت!
واقرأ أيضاً:
يوميات مجنونة صايمة: كرة القدم/ قاتل الله الكرة.. كم تفرق بين الأشقاء/ المونديال وحياتنا النفسية