فيلليني.... مشاركة
أرسلت هداية (36 سنة، سوريا، مبرمجة) تقول:
السلام عليكم؛
أنا أريد فقط أن أعقب على نقطتين في كلام الأستاذة رفيف،
النقطة الأولى: أن السينما عندنا "فلا يدخلها عندنا إلا أسوأ الناس"، يا أستاذة رفيف هذا ظلم لا يجب أن ينطق به من يدعو إلى الله تعالى وأظن من خلال قراءتي للاستشارات التي قمت بالرد عليها أنك مهتمة بأمور الدعوة إلى الله... كيف تحكمين على من يدخلون السينما عندنا بأنهم أسوأ الناس وما أدراك أن هذا الذي يدخل السينما لا يخرج منها فيذهب إلى صلاة أو عمل خير مهما يكن بسيطًا؟ أو على الأقل يمكن أن يشعر بالندم إن رأى سوءًا فيستغفر ربه؟....
ما أدراك بأن هذا الذي تصفينه بأسوأ الناس ليس لديه عمل خير قد يرفعه في يوم ما إلى أعلى الدرجات، ويكون لديك أو لدي أنا عمل يدنيني إلى أسوأ المراتب؟......
إن كنت تقصدين بأنهم أسوأ الناس من الناحية الدينية فهذا ظلم.... وإن كنت تظنين بأنهم أسوأ الناس من الناحية الاجتماعية _ وهذا ما اعتقده_ فهو تكبر ينأى عنه الإنسان المؤمن.
ولعل الذي لا تعرفينه يا أختي الكريمة -وأنا مثلك سورية دمشقية- أنه يوجد لدينا سينما راقية ومحترمة وتعرض أفلام عالمية في منتهى الروعة والاحترام، كما أنه يوجد دور سينما تابعة لمراكز ثقافية لدول غربية أيضا محترمة....
النقطة الثانية: أنك لا تحضرين حفلات الزفاف كونها يوجد فيها منكرات.... أليست هذه سلبية...... لماذا لا تذهبين وتحاولين أن تتصلي بالناس وتكوني بينهم، وإذا رأيت منكرًا تحاولين النصيحة والتنبيه وأنت تملكين الأدوات كون اختصاصك شريعة؟!.....
لي أخت وهي ملتزمة جدًا وداعية وتذهب لحضور هذه الحفلات، وتقوم بإلقاء كلمة تتحدث فيها بشكل عام وفي طيات كلامها تحاول أن تنصح وترشد..... أليس هذا أفضل من الابتعاد؟.....
ولمن لا يعرف فحفلات الزفاف لدينا ليست مختلطة....
الحقيقة يا أستاذة رفيف أنا أقرأ ردودك على الاستشارات واستمتعت بها وأحببتها حتى أني فكرت في زيارتك بكلية الشريعة للتعرف إليك......
وأرى أن مثلك يجب أن يكون لها دور إيجابي أكبر بكثير مما لمحته من خلال مدونتك هذه.....
تقبلي مني فائق الاحترام... ولك وللدكتور أحمد جزيل الشكر والسلام عليكم.
* تعليق الأستاذة رفيف الصباغ:
وعليكم السلام أختي هداية، وأهلًا بك وبجميع السوريين...
شكرًا لمداخلتك وتعقيباتك فهي هامة للغاية، وسأجيبك عنها:
بالنسبة للنقطة الأولى:
أولًا: أنا لا أقصد بأسوأ الناس: الناحية الاجتماعية، وإن كنتِ لو نظرتِ إلى مرتادي السينما تجدي أغلب من يدخلها، من الطبقات المتواضعة اجتماعيًا، ذات الثقافة والأخلاق المتدنية... وما اعتدت أبدًا أن أصنف الناس حسب طبقاتهم الاجتماعية، ولي صديقة حميمة، غير دمشقية، لو أردت تصنيفها اجتماعيًا، لو ضعتها في الدرجات الدنيا من المجتمع، بسيطة في تفكيرها لدرجة كبيرة، متواضعة جدًا في جمالها، بل هي للقبح أقرب، أقل من الوسط ماديًا، تسكن في الأحياء التي تضم خليطًا اجتماعيًا، والتي عرف أهلها بالجهل وبالمستوى المتدني اجتماعيًا وماديًا وثقافيًا.... ومع هذا أطلب منها الدعاء دائمًا، وأرى أني لا شيء أمامها، لصدقها، وفطرتها السليمة، وبرها بأهلها، ولإفناء عمرها لمساعدتهم، وحبها الفطري الصادق لله تعالى!!!
هؤلاء يا غاليتي من أغرم بهم!! الأتقياء الأخفياء، الذين نسيتهم الشهرة والأضواء، الذين لا يؤبه بهم، لكنهم لو أقسموا على الله تعالى لأبرهم!!
ثانيًا: بالنسبة للتعبير "بأسوأ الناس"، فأخبرك أن هذه مسألة لطالما أرقتني عندما كنت صغيرة، وعندما كان يقال لنا: يجب ألا تتكبروا على الناس، وأن تعتقدوا أن كل من في الشارع أفضل منكم!! كنت دائمًا أقلب النظر في هذه العبارة، وأقول في نفسي: أعلم أني ما ينبغي أن أحتقر أحدًا، لكن كيف لي أن أقول إن هذا السكير، أو تارك الصلاة، هو أفضل مني؟! إذن لم يعد هناك موازين!! وإذا تركت أنا الصلاة، يمكن أن أكون أفضل الناس!! ثم كيف يمكننا –على هذا- أن نفهم الحب في الله والبغض في الله، التي هي أوثق عرى الإيمان؟
وشرح هذا: هناك فرق بين أن نحكم على الفعل، وعلى صاحبه حالة تلبسه به، وبين أن نطلق على الإنسان حكمًا مبرمًا غير قابل للتغير، وكأننا قد اطلعنا على الغيب، وعرفنا أن الشخص قد غضب الله عليه منذ الأزل!!
فأما الفعل: فلا ريب ولا شك أن هناك أفعال ذمها الله، وذم أصحابها بسبب اقترافهم إياها. كقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [الحجرات:11]
فهنا: معنى قوله تعالى: ((بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)) في أحد تفسيرين لها، حسنه الإمام الرازي في تفسيره: أن المراد: بئس أن يطلق عليكم اسم الفسق بسبب، أفعالكم هذه، بعد أن دخلتم في الإيمان وصرتم تدعَون بالمؤمنين. وكذلك قوله تعالى آخر الآية: ((ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)). أي الذين ظلموا أنفسهم بفعلتهم.
والشاهد: أن الله عز وجل نهى عن هذه الأفعال، وذم أصحابها، وأطلق لفظ: الفاسق، والظالم، عليهم، وأنه ما داموا لم يتوبوا فإنهم يسمون: ظالمين! إذن نستطيع إطلاق لفظ الفسق، على من فعل ما يفسقه! وننكر ما يفعله، ونكرهه، ونبغض الفعل، وصاحبَه ما دام يفعله، ولا نجلس معه وهو يفعل ذلك الفعل، فإما أن ننهاه ويسمع، فنصاحبه، وإما ألا يسمع فنفارقه.
لكن المحظور أن يعترينا شعور أثناء نصحه، أو رؤيته وهو يفعل المنكر، بأننا أفضل منه، وأن الله يحبنا أكثر، ونحن في الجنة بسبب أعمالنا، وهو في النار بسبب عمله!! واجبنا أن ننكر الفعل ونكرهه، ونحمد الله على عافيته إيانا، دون أن يكون لنفسنا حظ في أن ترفع قدرها، وتتباهى أمام رب العالمين على حساب المسكين الواقع في المعاصي....
والسبب:
أولًا: أن خواتيم الأعمال مجهولة فلا ندري بمَ يُختم له، وبمَ يُختم لنا! وكلنا ما زلنا في دار الامتحان وقبل أن ينتهي الامتحان، وتظهر النتيجة، لا أحد يعلم نفسه هل نجح أم رسب، فضلًا عن أن يعلم نتيجة غيره ويعيِّره!!
وثانيًا: أننا كلنا نفترف الذنوب، ومقصرون في حق الله تعالى، فكيف يتفاخر أحدنا على الآخر، إن هذه قلة أدب بالغة مع الله تعالى. وتقريبًا للصورة أشبهها لك بمجموعة طلاب مشاغبين، وبعضهم أكثر شغبًا من الآخر، دخلت المعلمة -وقد قامت قيامة الصف-، فقام أحدهم وقال: يا معلمتي، عاقبي فلان، فهو الذي قفز من النافذة، وكسر المقعد....، هو يستأهل أشد الضرب منك، نعم عاقبيه!! وأنا لم أفعل مثله! فنظرت المعلمة إليه مقطبة الجبين، وقالت: لكن يا ناقص العقل، قليل الأدب... ألم تمزق حقيبة صديقك؟!! أتعتقد نفسك بريئًا حتى تشمت بصديقك؟!! تعال فخذ عقابك قبل هذا الذي شكوته، فأنت شر منه إذ لم تشعر بذنبك، وتتبعت ذنوب الآخرين!!
الآن نأتي لتفنيد قولي عليهم: "أسوأ الناس"، انظري إلى الداخلين، وأنت تعلمين... ما رأيك بأخلاقهم؟ إن لم نعلم عنهم شيء، ألا يكفي دخولهم من أجل مشاهدة أفلام تُهيج شهوة الجنس وما قاربها؟ ألا ترين الصور المعلقة على باب السينمات؟ هل يسمح الإنسان الجيد لنفسه بدخول مكان عُلَق عليه صور العري، والنساء، والمخنثين وأشباههم؟
أعلم من كانت لا تستطيع أن تركب الحافلة إلا بعد أن تمشي مسافة بعيدًا عن موقف الحافلات بسبب أنه قرب إحدى السينمات، وذلك أنها كانت تخشى من اختلاطها بالخارجين لأنهم من نوع: أعوذ بالله، ولا يتوانون عن التحرش بها وإيذائها إن اضطرت للركوب مساءًا، وهم خارجون من السينما!
وأسألك: لو جاء أحد ليخطب من عندكم، ألا تسألون عنه: هل هو سيء أم لا؟ لو كنا لا نستطيع نعت الناس حسب أفعالهم التي تظهر لنا، فلماذا نسأل عن الخاطب، ونصنف: هذا جيد، وهذا سيء؟ لماذا لا نقول: كل الناس خير وبركة، ولا ندري، لعله وليٌّ دون أن ندري، ونزوج بناتنا لأول طارق باب؟! اذهبي فقولي لأحد الخارجين من تلك السينمات: تعال واخطب قريبتي فلانة!! لو فعلت هذا لصرخَت فيك قريبتك: أما وجدتِ لي أسوأ من هذا؟!!
ولاحظي نفسك إذ قلت: (على الأقل يمكن أن يشعر بالندم إن رأى سوءًا فيستغفر ربه)، فلولا أنك تعلمين أنه يشاهد السوء، لما قلت: إنه يندم ويستغفر ربه مما شاهد!!
إذن، قضية أن الأكثرية الغالبة التي تدخل السينمات عندنا، هم من أسوأ الناس خلقًا ودينًا، أظن قضية معروفة، وإن دخل أحد سواهم، فهو نادر، ولا عبرة للنادر، كذلك من المعروف، أن الحكم على المجموع ليس حكمًا على الجميع.
وأظن أنه لا أحد من أهل الأخلاق والمروءة يرضى لنفسه أن يدخل مداخلهم. ونحن –تعلمين- نحكم بحسب ما ظهر لنا، ولا شأن لنا بما يخفيه المرء بينه وبين الله تعالى، وليس هذا من اختصاصنا، ولا يؤثر ما يخفيه السيئ من الخير في طريقة تعاملنا معه، حتى يظهره لنا، تمامًا كما أننا نحكم على من يعمل الصالحات بالصلاح، ولا علاقة لنا بما يخفيه ويبارز الله به في السر.
نعم منذ أربعين أو خمسين عامًا، وقبل أن يغزو التلفاز البيوت، كان من الطبيعي أن تذهب كافة الشرائح عندنا لتشاهد أفلام السينما، ولم يكن الجو فيها كما هو الآن، وتذكر لي أمي قصة طريفة حصلت معها عندما كانت في الجامعة في أواخر الستينات، ذهبت إلى المحاضرة، فلم يأت الأستاذ، فانتظرت قليلًا مع صديقتها، ثم قررتا أن تذهبا سويًا إلى السينما القريبة من الجامعة لتشاهدا فيلم (مارني) وكان يعرض حينها، فلما دخلتا أنير لهما الطريق إلى مكانهما بالمصباح اليدوي، حيث كان الفلم قد بدأ والظلام قد عمّ، وأثناء تحريك المصباح شاهدتا جميع طلاب صفهم والأستاذ معهم أيضًا يجلسون جميعًا على مقاعد السينما في صف واحد!!!
أما اليوم فلا يستثنى إلا ما يعرض أثناء مهرجان دمشق السينمائي، حيث توزع الأفلام العالمية الفائزة بالأولية على السينمات خلال فترة المهرجان، ويحضرها خلال ذلك من كان له اهتمام بالسينما والفن، أما في سائر أوقات العام فتعود الأفلام إلى ما كانت عليه من السوء. ويستثنى أيضًا سينما الشام، الموجودة في فندق الشام، فهي تعرض أفلامًا جيدة فنيًا طوال العام. كذلك السينما الموجودة في المعهد العالي للفنون المسرحية، ويرتادها طلاب الفنون والمختصون، كما يمكن لغيرهم دخولها أيضًا، وربما كنت تعلمين دورًا أخرى لا أعلمها، لكنها على كل حال قليلة.
والمهم أن الثقافة السينمائية -حاليًا- غير منتشرة بين الشعب السوري، أو على الأقل: الدمشقي، ويقتصر حضور السينما الجيدة –غالبًا- على المهتمين والمختصين في هذا المجال. أما السينما السيئة الغالبة فهي للسيئين!
ننتقل للنقطة الثانية، وهي عدم حضوري لحفلات الزفاف:
لا أحد يستطيع أن ينكر أن حفلات الزفاف التقليدية المنتشرة، تعج وتفور بالمنكرات، (رغم أن الغالب الأعم فيها غير مختلط، والاختلاط نادر جدًا ومقصور على فئة محددة)، لا أحد يستطيع أن ينكر كشف العورات، والرقص الخليع، والأغاني الفاجرة، والتفاخر والبذخ العجيب، ولا أحد يستطيع أن يدعي أن هذه الأمور جيدة أخلاقيًا ودينيًا، حتى وإن انتشرت خارج الأعراس على نحو أصابنا بخدر في الحس، فما عدنا نميز بين الحسن والقبيح إلا بصعوبة!!
تعالَي معي الآن: إن حفلات الزفاف على هذا النحو، معصية، ولا يشفع لها تسميتها بحفل زفاف، ودخول الإنسان إلى مكان المعصية، لا يجوز إلا بشرط أن يستطيع منع المعاصي، أي إذا كنتُ أستطيع أن أذهب إلى الحفل، فأجعل الحاضرات يسترن عوراتهن، ويستبدلن الأغاني الخليعة -التي تصم الآذان ويسبب سماعها الغثيان-، بأناشيد أو أغانٍ أخرى غير خليعة، وأن أسكت الحاضرات عن الهمز واللمز، والتأمل والحملقة في أجساد الحاضرات وعوراتهن... أو على الأقل أخفف كثيرًا من هذا إن لم أستطع إزالته كلية، حينها يجب علي أن أذهب (وليس يجوز فقط).
أما إذا كنت لا أستطيع، ولن يتغير شيء بوجودي، حتى لو بُحَّت حنجرتي من الصراخ فيهم ونصحهم، فلا يجوز لي الحضور.
ولهذا تفصيل طويل، قد ذكرته في كتابي "حفل الزفاف في الفقه الإسلامي"، ويمكنك الاطلاع عليه إن أحببت وهو موجود في مكتبة الفارابي في الحلبوني، وقد شارفت الطبعة الأولى على النفاد ولم يبق منها إلا نسخ معدودة... وهناك من اشترى الكتاب قبيل زفافه، وقام بتنظيم حفله على حسب ما ذكرت فيه، وقمت بحضور حفله...
وأنا في الفترة الماضية من حياتي كلها، لم يمر عليّ حين لو أردت دخول الحفل هاب الناس دخولي وامتنعوا عن المعصية!!
لهذا كنت أذهب قبل بدء الحفل أنا وأمي وأخواتي، إلى منزل العروس، فنبارك لها ونعطيها هديتها، ونعتذر منها، بأننا لا نحضر مثل هذه الحفلات!! وقد شاع هذا الأمر عنا، ويئس الناس أن نجاريهم، ولا يخلو الأمر ممن يعترض، ويتشاجر، ويصفنا بالتشدد، وغير ذلك، لكن لا يهم! الناس لا ترضى، ولن ترضى حتى نتبع ملتهم!!
وتسألينني: أليست هذه سلبية:
أقول: إن السلبية: أن أعتزل الناس جملة وتفصيلًا، فلا أخالطهم، ولا أقابلهم، ولا أنصحهم. وأنا بحمد الله تعالى أخالط الناس في غير الحفلات، وأبين لهم حكم حفلاتهم، وأنكر عليهم ما يفعلون بالطريقة المناسبة لفهمهم، دون أن أضطر للجلوس معهم أثناء اقترافهم لمعاصيهم...، ألم يبقَ إلا ساعة معاصيهم أصاحبهم فيها وأنصحهم؟!!
آتي إلى ما تفعله أختك وأمثالها، بارك الله تعالى بهن، فهذا عمل جيد، ومطلوب، ولا بد من وجود المنشدات اللواتي يقمن بإزالة منكر الأغاني الخليعة، وهذا واجب ينلن عليه الأجر الكبير.... وكذلك وعظ النساء، هو عمل مبرور، خاصة إذا لم يكن هناك مجال لوعظهن إلا في تلك المناسبة... لكن لي وجهة نظر شخصية تخصني أنا في هذا الجانب، وأراها أنسب لحالي، وتتكون من شقين:
الأول: أني لم أجد الوقت إلى الآن كي أجهز نفسي للكلام في المناسبات، السارة أو الحزينة!! وقد يبدو هذا الكلام غريبًا على السامعين، وقد يشهقون قائلين: تُعِدِّين دكتوراه في الفقه، ولا تحسنين إلقاء كلمة في عرس، أو في عزاء ولا تحسنين الدعاء بعدها!!!!!!!
نعم يا عزيزتي أنا لا أحسن هذا إلى الآن، وأمزح مع الناس فأقول: لم يعلمونا هذا في الدراسات العليا!!
هذا الأمر جد حساس ويحتاج إلى تحضير الكلام المناسب للوضع، وإلى الالتزام بالصحيح منه، لأننا مسؤولون أمام الله تعالى غدًا. وليست القضية: حفظنا حديثين قد يكونا موضوعين، عندنا أسلوب مؤثر، ونية سليمة، وجئنا نعظ وندرّس!!
حضرت مرة عزاءً، فجلست الواعظة في نهاية العزاء لتخبر الناس، (بروايتها لحديث الله أعلم من اخترعه) أن من أراد حفظ القرآن فمات قبل أن يكمله، أرسل الله تعالى إليه ملكان، يقومان بتحفيظه في القبر، فيلقى الله تعالى وقد حفظه كاملًا!!!
والله عجيب!! الذي يعلمه كل المسلمين أن العمل ينقطع بالموت إلا من ثلاث، الصدقة الجارية، والعلم الذي ينتفع به، والولد الصالح الذي يدعو للميت. أما أن يقوم الميت بحفظ القرآن في القبر فهذا ما لم أسمع به ولا أحد من المسلمين من قبل!!! لو قالت: إن الله تعالى يكتب له أجر نيته لقلنا: نعم! أما أن يحفظ فهذا عجيب، وأما أن تستدل على هذا بحديث، فهو أشد عجبًا!!! فقلت حينها لأختي -وأنا أمازحها طبعًا-: لا أدري علامَ نحجم عن الوعظ، إذا كان الأمر بهذه البساطة: (شو ما إجا على بالك أحكي)!!
وأخرى في مناسبة سرور استدلت بما اشتهر على ألسنة الوعاظ في الكلام عن الأولاد: (لاعبه سبعًا، وأدبه سبعًا، وصاحبه سبعًا، ثم اترك الحبل على الغارب)!! استدلت أن سن التكليف والمسؤولية في الإسلام هو: (21)، وليس مثل القانون في الثامنة عشرة!!! وما قالته أصلًا غير موجود بهذا اللفظ، وحتى اللفظ الأصلي له، فأحسن ما قيل فيه: إنه ضعيف، وقال ابن الجوزي عنه: إنه موضوع!
إذن قضية الوعظ ليست مهنة وليست للتسلية، وأنا لم يتح لي إلى الآن أن أجد وقتًا زائدًا عن أوقات الدراسة، لأقوم بالتمحيص والتحضير والاستعداد لهذا المجلس الذي تقابلين فيه شرائح مختلفة من الناس، بثقافتها، ومعلوماتها، وبيئتها.... وعذري معي إذ لم أجد الوقت لانشغالي بالعمل في ثغر آخر، ومعلوم أنه يحرم على من يأمر وينهى أن يفعل ذلك دون علم، وأنا لم يتح لي أن أتعلم ما يتعلق بهذا!!
الشق الثاني: أني عندما قمت بكتابة بحثي عن حفل الزفاف، قمت بدراسة تاريخية لحفلات الزفاف عبر التاريخ الإسلامي، وبدراسة لشخصية أصحابها، فتبين بالاستقراء، أن حفل الزفاف عند فرد من الأفراد هو صورة مصغرة عن أسلوب حياته، وترجمة لأفكاره ومعتقداته، ولكن بشكل أشد وضوحًا نظرًا لطبيعة المناسبة وغلبة مشاعر السرور عليها، والتي هي فرصة للإفصاح عن جميع الرغبات.
لهذا خلصت بنتيجة: أن إصلاح حفل الزفاف متعسر قبل البدء بإصلاح الفرد خارج الحفل، وأنه إذا أردنا نتيجة طيبة، فعلينا أن نبدأ من خارج الحفل، وهذا أفعله والحمد لله.
والنتائج التي تظهر –عادة- نتيجة الوعظ في الحفلات، محدودة. غالبًا ما تنحصر فائدتها في إيقاف المعاصي مدة الدقائق التي تتكلم فيها الواعظة، أو تنشد المنشدات، وهذا أمر طيب.
أمر آخر: أن حفلات النساء مختلفة عن حفلات الرجال في هذا، وذلك لاختلاف طبيعة الرجل والمرأة، فحيث تجدين الرجال يستمعون بهدوء للواعظ، ويتفاعلون مع كلامه، ولا يجدون في ذلك بأسًا، ترين كثيرًا من النساء يتأففن، ويقلن: ألم تجد إلا الآن لتتكلم، ويبدأن بأحاديث جانبية أخرى كي لا يسمعن!! ويصبح الحفل مثل (حمّام قُطعت مياهه)، ولربما رأيت إحداهن، تنفتل إلى الواعظة بعد انتهاء الكلمة وتقول لها وهي تلوك العلك في فمها: (يو يسلم هالتم!! الله يهدينا، والله كل شي قلتيه مظبوط)!!
وحكي لي، أن واعظة جلست وابتدأت الحاضرات بالشغب والكلام، فكانت تدق على يد الكرسي وتقول -وصوتها لا يصل إلى أذنها من شدة الضجيج-: (لك اسكتووووووا)!!
لا أقول هذا لأعترض على من تعظ في الحفلات، بل عملهن مبرور مشكور، وأشكرهن مرة أخرى لأنهن حملن عني واجبًا لا أحسنه، وأزحن عن كتفي مسؤولية -لعلّي أحسنها في يوم من الأيام- وخاصة إذا كانت من تسلمت الزمام ليست ممن اتخذ الوعظ مهنة وتجارة...
وأخيرًا: أكرر شكري لملاحظاتك القيمة الواعية، ولمشاعرك الطيبة، وأهلًا بك دائمًا....
واقرأ أيضاً:
مهلاً... أنا عندي مشكلة أيضاً... / عن ماذا أكتب؟؟ / قانون التغيير والمطبخ النفسي