زميلي يؤكد أن هناك مشكلة كبرى حاليا بدأت من شهور مع تضييق إدارة مكافحة المخدرات في وزارة الداخلية المصرية على الحشيش وتجارته حتى صار نادرا للغاية في الأسواق!!
الأزمة تطحن مدخني الحشيش، وهم قطاع كبير جدا يضم أفرادا قد لا نتخيل أنهم يفعلون، وهم حولنا، أو على مقربة منا!!
جاءني طالب ثانوي مع إخوته الذكور لما رأوه عليه من سلوكيات سيئة استجدت، ولم تكن موجودة من قبل: الخروج مع شلة فاسدة، التدخين والحشيش، سرقة مبلغ من أحد الأدراج، التهديد المتكرر بالانتحار، الإهمال الدراسي في نهايات سنة فارقة في حياة كل طالب!!
تكلمت مع الولد فحكى طرفا من الحقيقة: شعور بالعجز، وعدم التحقق، الخوف من الفشل، ومن ألا يصبح مثل إخوته الأكبر خريجي الكليات: المرموقة، لم يرو حكاية التدخين والحشيش، ولم يرو أنه مثل الملايين من أبنائنا وبناتنا يعيشون حياة بائسة بلا معنى ولا هدف ولا أمل ولا هوية ولا هوايات، ولا اهتمامات ولا جماعات اجتماعية تحقق لهم ضرورة الانتماء، والدعم المتبادل المطلوب بشدة في هذه المرحلة العمرية!!!
بينما توجد مئات وربما ألاف الأماكن ما بين مراكز ثقافية، أو ما يفترض أن يكون كذلك، أو مراكز شباب ـ مفترضة أيضاـ والقليل من هذا وذاك ينشط، والأغلب مهجور، أو يقتصر نشاطة على جماعة ضيقة من المنتفعين، وأصحاب المصالح، وغيرهم فإن الأسوار تكون بمثابة حواجز بين الناس، وما شيدته الدولة المصرية أيام كانت موجودة وفاعلة ـ ولو جزئيا ـ فإذا بما هو قائم أصلا لمصلحة الناس يقع في قبضة الإهمال والفساد والغيبوبة الجماعية التي نعيشها، فلماذا لا ندخن الحشيش إذن فنصبح في غيبوبة رسمي، وألذ، ألذ، ألذ!!! والنتيجة قطعان الشباب الصغير ذخيرة المستقبل، وطاقة الإعمار مبددة على النواصي، وهائمة على غير هدى هنا وهناك!!
تذكرت طالب ثانوي آخر جاء مع والديه المنفصلين، وكانت أمة قد سبقته بزيارة لتشتكي من تدخينه الحشيش، ومن عدم حكمة والده في معالجة هذه المسألة، أو غيابه عن متابعة شئون ولده، ولا أعتقد أن لدى الأم أدنى تصور محدد لكيفية معالجة المسألة!! ربما فقط تلوم الأب، وتتملص من المسئولية، بل لا أدري كيف يمكن علاج الأمر في غياب منظومات استثمار طاقة الشباب، والاهتمام بشئونهم!! والبديل لاستثمار تلك الطاقات أن تخرج في حوادث عنف أو تحرش أو غير ذلك.
لا أريد تكرار تقليب المواجع بالتساؤل عن دور المدرسة، أو دور العبادة، ولا أنتظر كثيرا من أغلب الإعلام الباحث عن الإثارة، أو الراقص طوال اليوم، أو الصارخ بمواعظ سقيمة يحسبها تنفع!!!
طالب الثانوي هذا الذي جاء مع والديه أكد لي ـ ربما ليدافع عن موقفه ـ أن أكثر من 90% من زملائه يدخنون الحشيش، وأن من لا يفعل يصبح في عرفهم "عيل"، أو "خرونج" كما ذكرتنا الأغنية باللفظ مؤخرا... بينما الرجل يحشش!!!
إذن في غياب الهدف والمعنى والهواية والعضية وفي غياب التواصل بين الكبار والصغار يصبح لدى الطلاب أسبابهم لتدخين الحشيش، فماذا لدى الكبار من أسباب؟!
بسهولة يمكن أن أرص قائمة من أسباب حقيقية جدا تفسر ولا تبرر لجوء هذه الجماهير للحشيش بديلا عن عمليات نفسية واجتماعية وعقلانية من المفترض أن تكون موجودة في أي مجتمع إنساني سليم!!
كبت الحرية السياسية والاجتماعية، ضغوط المعيشة اقتصاديا واجتماعيا، قلة الحيلة الصارخة في فهم وتحليل وحل المشكلات الشخصية والأسرية، ومشكلات محيط العمل، وغياب الترويح بوظائفه النفسية والروحية الأساسية مقابل الأنتخة والعطالة والبطالة في أي وقت فراغ، أو يوم أجازة، وحتى في مواعيد العمل الرسمية، وبالتالي لا يوجد شيء حقيقي يشغل أذهان الناس المكدودة، وغياب التناول الصحيح والصريح والجاد للقضايا والمشكلات الحقيقية في مقابل الإعلان والإعلام الواسع عن الخناقات والفضائح السياسية والفنية والرياضية!!!
وسهولة الحصول على الحشيش ـ إلا في الآونة الأخيرة ـ وهي مسألة لا أعتقد أنها ستستسمر طويلا، لأن الطلب عليه عالي للغاية، والمناعة الإيمانية والثقافية والنفسية لتدخين الحشيش ضعيفة للغاية، والأسباب كثيرة ومتواترة!!
وأضحك كثيرا من شدة البلية حين أرى أو أسمع مقترحات القضاء على هذه الظاهرة أو تلك بتشديد العقوبات، وإصدار المزيد من القوانين مع بقاء الأوضاع المتسببة في الظواهر السلبية على حالها، وأضحك أكثر حين أرى من يناشد "الدولة" أن تتدخل، وكأن لدينا مؤسسات وأجهزة وقدرات وخطط، وأداء سييء نحتاج فقط لكلمة نقد حتى ينصلح!!
وأرى أن الحشيش هو مجرد عرض من أعراض طريقة وأسلوب حياتنا، وهذا الأسلوب البائس هو ما نتشارك ونتعاون ونتواطأ جميعا في إنتاجه، كل في موقعه، وطالما مؤسسات البحث الإجتماعي، والجامعات، والإعلام، والمدرسة، والأسرة تبدو وكأنها جزر معزولة أو غرقى يصرخ كل منها طلبا للإنقاذ، أو من قبيل الولولة على ما يحصل، دون ربط حلقات السسلسة، والخروج بمنتج أو خطة إجتماعية قابلة للتنفيذ، وطالما سنبقى أفرادا نفتقد للقدرة على العمل الجماعي، ولا نجيد إلا الشكوى والبكاء، أو الإكتئاب والعجز مقابل دعوات التفاؤل الأبلة، دون فعل يؤسس لعمليات اشتباك حقيقي مع المشكلات... إذا بقينا هكذا فلا عجب أن يظل الحشيش ودخانه الأزرق!!
نعم سيبقى الحشيش ملاذا للهاربين من مواجهة مسئولية الحياة الإنسانية، وشرف الخلافة عن الله في أرضه، وسيبقى الحشيش جنة لباحثين عن بهجة مصنوعة دون تكاليف التواصل، أو الفعل الاجتماعي، أو الإنساني المبدع، أو توليد الفرحة من حب حقيقي، أو ترويح أو مسامرة غائبة كمدا أو فشلا أو ادعاءا لتدين خائب، أو شكلاني سخيف!!
الحشيش سيظل خيار أمة في متاهة، عاجزة عن أن تدرك أوضاعها، أو تفهمم أخطاءها، أو تعالج نواحي الجهالة والقصور فيها، منتظرة للزعيم القائد، أو الأوامر الرسمية، أو الفرج من السماء، وسيطول انتظارها لأن السماء لا تمطر حلولا على الخائبين كما قلت من قبل!!! أصحاب التدين الهروبي، والدراويش الجدد الذين يملأون أرجاء الأرض من حولنا هم حشاشون دون تحشيش ولا حشيش!!!
والإنسان التافه االعالة ـ وأغلبنا كذلك ـ هو حشاش، ولو لم يدخنه في سيجارة، أو يتسلطن في غرزة!!
والإنسان الغائب عن ضرورات وضروريات إنسانيته هو حشاش تحول الوطن لديه إلى قعدة تحشيش كبيرة يتبادل فيها النكات والقفشات والمفارقات، ويضحك في بلاهة، بينما يحترق الوطن، والزمن يسبقنا، وطاقته الإنسانية، وكل أزمة حشيش، ونحن طيبون!
إضافة لاحقة:
في المؤتمر الأخير للجمعية المصرية للطب النفسي حظي الإدمان وأبحاثه بتركيز كبير ما بين دراسات ميدانية أخرجت نتائج مفزعة تقول أن من بين كل اثنين في مصر يوجد واحد لجأ إلى المخدرات، البعض أدمن، والآخرون يتعاطون من آن لأخر!!
والمخدرات هنا لا تقتصر على الحشيش الذي يتصدر قائمة المخدرات من حيث الاستعمال عند المصريين, الدراسات ربطت بين نوعية الحياة، مستوى المعيشة والتعليم، التماسك الأسري، البطالة، وبين احتمالية تعاطي المخدرات.
وعلى مستوى خبرات وتجارب العلاج تواترت النتائج أن التعافي لا يتحقق بمجرد وقف التعاطي، ولكنها عملية تغيير حياة يعيشها من يريد الخروج من هذه الدائرة، وهو نفس المعنى الذي أشير إليه من أن مجتمعا ما حتى يتخلص من الحشيش وأمثاله لابد أن يكون له حياة نشطة وحقيقية فيها تواصل، ومهارات حياة، وعلاقات إنسانية ناجحة، وخبرات روحية عميقة تعطي معنى وجدوى وطعما للحياة رغم الضغوط، وكذلك مناسبات ونظم ترويجية منهجية لها غايات ومعالم هوايات واهتمامات.
والحشيش هو الحل السييء والبديل المرضي لكل هذه اللوازم الغائبة الغامضة التائهة في حياتنا. لكن التحدي الأكبر الذي يقابلنا هو بناء خطط وشبكات العمل في غياب وانسحاب الأجهزة الرسمية، أو تواضع أدائها بشكل يصل إلى الانحطاط أو الانهيار الكامل؟! كيف لمجتمع أدمن الاعتماد على الدولة أن ينتبه، وينقذ نفسه؟! إذ لا توجد خيارات أخرى أمامنا!َ!!
واقرأ أيضًا
على باب الله: مربط الفرس/ على باب الله: خطاب إلى العقل