طالما سألت نفسي: فيمَ يظل العشاق والمعذبون من أرباب القلوب، يتغنون باسم الليل كلما أقبل، وينتظرون ظلامه كلما أدبر، ويرون في سواده إشراقًا أحلى في عيونهم من شفق الصبح؟!
ولما شكى إليّ القلب جراحًا في سويدائه، أقبلت ذات يوم إلى الكون، أنقل إليه شكواه، وأبثه آهاته...
فرأيته أشبه ما يكون بملهى واسع كبير قد تزاحمت فيه ألوان من الصخب واللهو والضجيج، ليس فيه إلا مشغول بغيري، معرضٌ عن أنيني وصوتي، ورأيتني وسط زحامه غريبًا إلا عن نفسي منفردًا إلا عن قلبي...
فطويت الآهة في صدري، وأعدت اللوعة إلى قلبي، واعتصمت بالسكوت...
وأقبل الليل دون أن يقبل معه إلى عيني النوم.. وأقبلت من ورائه ساعة السحر، والعين لا تزال يقظى مسهَّدة..
وفجأةً، رأيت الكون كله يقبل عليَّ بعض إعراض!
وأصغيت، فسمعت في صمته العميق أرق ألحان الحب والحنان يسكبه فم الكون في أذني!..
وتأملت فأحسست -في نسيمه الهانئ العذب- بيد الدنيا تمسح على فؤادي، وتضمني إليها ضمة أمّ مشفقة والهة!..
ونظرت فإذا بنجوم السماء تتناثر دموعًا من أجلي!..
ورأيتني وأنا في هدأة السحر، أعيش في ضمير الكون كله، تشملني خفقات قلبه، ويرأف بي حنو صدره...
ورأيتني مستسلمًا لبحر من الحنان الدافئ لم أجد مثله إلا في صدر أمي التي تركتني وأنا طفل...
ولما أشرق الصبح، رأيت الكون يتسلل معرضًا عني، ورأيتني مرَّة أخرى أعيش وسط ضباب الغربة والوحشة...
وإذ ذاك، علمت لماذا يتغنى العشاق باسم الليل كلما أقبل، وينتظرون ظلامه كلما أدبر.
نقلًا عن كتابه: من الفكر والقلب: ص203
واقرأ أيضاً:
عندما يصبح إعجاز القرآن مصدراً للكسب