لا أكاد أتصفح جريدة، أو أتابع قناة فضائية إخبارية، أو أستمع إلى حوار حول قضايانا الهامة في هذه الآونة، إلا ويظهر موضوع النقاب، ومنع النقاب في أوربا، أو في الجامعات المصرية، أو في سوريا، أو هنا أو هناك. وأتساءل عما سيحدث للعالم عندما تنجح هذه الحملة التي جعلت موضوع النقاب قضية تتنادى دول العالم من أجل الحد منها.
هل ستصبح المرأة أكثر حرية أو تحرراً عندما ينتهي النقاب، ونتخلص منه كما يريد البعض؟
يدعون أن النقاب علامة قهر، ولا أدري كيف يكون كذلك إذا اختارته فتاة أو سيدة لنفسها بمحض إرادتها، وأغلب من الغرب مثلاً من المنقبات هن من هذا النوع بالتأكيد، فمن الصعوبة بمكان أن يفرض على إنسان في الغرب ملبساً أو مظهرا، وارتداء النقاب هناك مشقة بلا شك لا يبررها إلا اعتقاد المرأة بأنه تفعله قربى إلى خالقها. أليس من حق إنسان أن يعتقد ذلك؟
الكثير من مظاهر قهر المرأة في عالم اليوم لا ترتبط بالملبس، وإنما بنمط التفكير.
وهل أصحاب الموضة الذين يحرصون في كل عام أن يظهر لنا جزء أكبر من جسد المرأة هم دعاة حرية وتحرر، وهل الإعلام الذي يحول المرأة إلى كائن جنسي يستخدم بالدرجة الأكبر في الدعاية والإعلان، وجذب المشاهدين إلى أي سلعة وكل سلعة.. هل هذا الإعلام سيتحسن عندما نتخلص من النقاب في العالم؟
كنت في أحد الأسواق منذ أيام، ورأيت فتاة لا تستطيع المشي بسبب ارتدائها لكعب عالي.. رفيع جداً.. وعالي جداً.. وسألت نفسي.. ما الذي يجعل امرأة تتحمل هذا العذاب الذي لا يمكن أن يفرضه دعاة الموضة على الرجال.
هل التخلص من النقاب سيرحم نساء العالم من هذا الكعب العالي الذي يسبب لهن المشقة الدائمة وأمراض الظهر المستقبلية، ومن فعل بهن هذا؟
أكل هذه المشقة من أجل إرضاء الرجال؟
ثم يقولون أن ارتداء النقاب مشقة! عندما أرى من يرتدون ملابس ضيقة للغاية وخانقة إلى أبعد حد من أجل اتباع الموضة، أو إظهار مفاتن الجسد أو قوته.. ويتحملون مشقة ذلك، هل سيساعدهم في مشقتهم أن تتخلص بعض النساء من النقاب؟
هل سيصبح العالم أكثر أماناً عندما نتخلص من النقاب؟
يتحدث دعاة الأمن أن النقاب يمكن أن يستخدم في الإرهاب، وصدقوا.. وكذلك أي نوع من الملابس يمكن أن يستخدم في الإرهاب.
ويتحدثون أن المنقبات في الجامعة يمكن أن يمارسوا الغش.. أو تختفي واحدة أو واحد خلف ملابس أخرى؟
وهل الغش في جامعاتنا أصبح حكراً على المنقبات.. أم أنه ظاهرة أخلاقية يجب أن نتعامل معها لأنها تحطم قيم أجيال بأكملها وتخرج إلى المجتمع.. خريج لا يثق بنفسه أو بقدراته، ويرى الغش وسيلة للنجاح. لن يصبح العالم أكثر أماناً.. ولن تصبح الجامعات أكثر قيماً أو أخلاقاً عندما نتخلص من النقاب.
يتحدثون عن الوسطية والاعتدال وقبول الآخر، وأن النقاب يحرم المجتمع من التعرف على الطرف المقابل عندما ترتدي امرأة النقاب، وأنه رمز للانغلاق والتخلف والانعزال عن الحياة.
فهل ستصبح مجتمعاتنا أكثر وسطية عندما نتخلص من النقاب؟ وهل النقاب في ذاته هو مفتاح الوصول إلى الوسطية.. أو التخلص من التطرف أو الغلو في الأفكار.
وأتساءل عن فكرة قبول الآخر.. هل يجب لكي أقبل الآخر أن يرتدي ملابس معينة تسمح لي بقبوله، ألا يعني ذلك أنني تدخلت في حرية الآخر في الملبس حتى أقبله.
ينادون في فرنسا أن النقاب يهدد علمانية فرنسا.. كم هي ضعيفة وهشة تلك العلمانية التي لا تستطيع أن تتحمل غطاء وجه امرأة.
فتاتان من فرنسا قامتا الأسبوع الماضي بارتداء النقاب فوق ملابسهن المتحررة، وسيقانهن العارية. تحركت الفتاتان أمام عدد من أقسام الشرطة والمصالح الرسمية الفرنسية لكي يوصلوا رسالة.. لم يعتقلهن أحد! لأن المشكلة لم تكن في النقاب بالطبع، وإنما لأنهن ليستا مسلمات، أو لا يظهر أنهن مسلمات.. رغم أن واحدة منهن كانت مسلمة، ولكنها لا ترتدي الحجاب. الرسالة كانت بسيطة وقوية ومخجلة.. الذي يحارب ليس النقاب.
هل ستصبح مجتمعاتنا أكثر هدوءاً.. أو أقرب إلى القيم الفاضلة.. أو أعلى في سلم الحضارة عندما نتخلص من النقاب؟
هل سيكون لدينا صناعة أقوى.. وتقنيات أفضل.. ومدنية أكثر.. عندما نتخلص من النقاب؟
بالطبع هذه الأمور لا ترتبط بلباس الناس، وإلا لكان الحل سهلاً للجميع. اللافت للنظر في الغرب تحديداً أن المقبلات على النقاب كثير منهن من الأوربيات.. أي ممن نشأن في ربوع المدنية الغربية، فلا يمكن أن تلقى عليهن تهم التخلف المعتادة في العالم العربي والمسلم.
أتمنى أن أجد إجابة شافية لسؤال بسيط: ماذا سيحدث في العالم عندما نتخلص من النقاب؟
أنا لست ممن يرون أنه فريضة لنساء المسلمين، ولكنه بالتأكيد لمن تختاره عن قناعة فضيلة، وقرار شخصي لا يجب أن يعنيني في شيء، ولن يكون العالم أكثر أماناً أو أكثر سعادة أو أكثر هدوءاً .. إذا لم يتبقى في العالم منقبة واحدة.
هذا النقاب موجود منذ 1400 عام.. تقدمت الأمة الإسلامية خلالها وتراجعت.. ولم يرتبط النقاب بذلك التقدم أو التراجع في ذلك التاريخ الطويل، بل أن هناك من الدلائل ما يشير إلى ارتباط الفضيلة بالعموم بالتقدم في حال أمتنا الإسلامية بالتحديد.
وخلال نفس تلك الفترة عانت أوربا وأمريكا من الوحشية والهمجية والتخلف ولم يكن هناك نقاب.. ثم عانت من الحروب وويلاتها وأفنى الغرب بأسلحته المدمرة.. عشرات الملايين من الغرب نفسه.. في حروب عالمية، ولم يكن هناك نقاب، فلا النقاب كان عقبة في حياة الغرب.. ولا عقبة في تقدم المسلمين، فلماذا نسعى بهذه الحماسة المنقطعة النظير إلى التخلص منه؟
إلى العقلاء في أمتنا أتحدث.. انتبهوا إلى من يجركم إلى تلك القضايا، ويشغلكم بها، ويجعلها محاور تفكيركم. إلى العقلاء في عالمنا أقول: احرصوا على الفضيلة ولا تربطوها بلباس أو أو نقاب، فعالم اليوم بحاجة إلى الفضيلة أكثر مما هو بحاجة إلى محاربة النقاب.
إلى العقلاء من قادة عالمنا العربي والمسلم: لا تجعلوا من أعداء العالم المسلم قدوة لكم، أو محركاً لأولويات بلادكم، فقضية النقاب مفتعلة من كل جوانبها، ولا أعفي التيارات الإسلامية من التكلف في التعامل مع هذه القضية أيضاً.. ولكني أدعو قادة بلادنا إلى ألا ينجروا خلف من يريد إشغال الأمة المسلمة في نفسها، وملابس فتياتها.
هل نحن جميعاً سعداء بأحوال بلادنا وتقدمها ولم يبقى إلا النقاب لكي نعالج ظاهرة انتشاره أو اختفاؤه. أعجب لوزراء.. حال وزاراتهم مزري بكل المقاييس والمعايير.. وليس لهم قضية يتحدثون حولها إلا النقاب.
التخلص من النقاب لن يحول العالم إلى مكان أكثر سعادة أو أكثر رقياً أو أكثر مدنية.. إنه فقط سيجعل من أبناء هذا الزمان أضحوكة للأجيال القادمة التي لن يختفي فيها النقاب، وسيتساءلون في دهشة.. ما الذي كنا نحاول أن نفعله في مطلع القرن الحادي والعشرين.. سيتساءلون في اندهاش عن سذاجة أجدادهم.. نحن.. وكيف استغلنا خصومنا في أن نعمل لقضاياهم ولأجندتهم.. ولمشروعاتهم. ولا أدري كيف سيجدون إجابة في ذلك الوقت عن سؤال بسيط: لماذا كنا نحاول أن نتخلص من النقاب؟
واقرأ أيضاً:
عندما يصبح إعجاز القرآن مصدراً للكسب