وعدت في مدونتي الأخيرة عن "ليلة عيد الفطر...1431 هجري 2010م"، وأنا أشرح كيف تغيرت علاقتي بالمسجد في رمضان هذا العام (1431 هجري 2010م).... وعدت أني سأكتب عن مسجدين ملأتني في كل منهما مشاعر فياضة كثيرا ما دمعت لها عيناي في رمضان هذا العام، أول هذين المسجدين ولنقل الأكثر تأثيرا لأنه في الزقازيق حيث بدأت خطواتي الفعلية كطبيب من أول عام في كلية الطب، وأقيم حتى الآن، هذا المسجد هو مسجد جمعية المحافظة على القرآن الكريم وهو الآن أحد أكبر المساجد القريبة من عيادتي...
ولكي نكون أكثر دقة فإن علاقة جواري لهذا المسجد بدأت فعليا سنة 1993 حيث كنت أكملت عاما بعد حصولي على الماجستير، وفي تلك السنة شرفت بتأسيس عيادة الأمراض النفسية (أو الطب النفسي) والأمراض العصبية (أو طب المخ والأعصاب) في مستوصف (عيادة خيرية مشتركة) تابع لجمعية المحافظة على القرآن الكريم بالزقازيق وهي نفس الجمعية التي يرجع لها هذا المسجد، وطوال سنوات خمسة عملتها في تلك العيادة الخيرية لم أصلِّ في ذلك المسجد ولا مرة... كنت أكتفي بالصلاة في حُجَيْرّةِ الكشف التي كنت أقعد بها غالبا من قبل الظهر حتى بعد العصر ومن قبل المغرب حتى ما بعد العشاء يوميا عدا الجمعة التي أحيانا ما كنت أعمل فيها مساء فأسمع أذاني المغرب والعشاء والحال هو الحال...
في نفس الغرفة كنت أصلي.... وكثيرا ما ضيع مني - من فضل الصلاة في المسجد كما أرى اليوم- مفهوم أن العمل عبادة كما يستخدمه الناس... ولا أنكر أيضًا أن كون المسجد ومبنى العيادات الملحق بها يشكلان جزأين من مبنى واحد كان مما استخدمته لتبرير صلاتي دائما في غرفة الكشف، ومن المنصف كذلك أن أبين أن حالي لم يكن مختلفا عن حال جميع الزملاء والزميلات من الأطباء في تلك السنوات فنادرا ما كان أحدهم -في وقت فراغ عيادته- يصلي في المسجد، هذه كانت علاقتي بمسجد المحافظة على القرآن الكريم.
بعد ذلك عندما استقر بي العمل في عيادتي الخاصة وهي غير بعيدة عن الجمعية ولما كنت غالبا أعمل يوم الجمعة فإنني كثيرا ما كنت أصلي الجمعة في ذلك المسجد.... وكنت مثل كثيرين أبقى مستمرا في العمل -العمل الخاص بموقعنا مجانين وليس المرضى بالطبع- إلى أن تقارب خطبة الجمعة على الانتهاء وحين أصل إلى المسجد أصلي في الصفوف الخارجية... في الشارع المجاور للمسجد مثل كل المتأخرين في حضور صلاة الجمعة... استمر الوضع كذلك حتى كان ما أراد الله في رمضان 1431 هجري 2010م وبدأت أواظب على الصلاة في المسجد كما وضحت في مدونتي عن ليلة عيد الفطر.
تغيرات كبيرة تلك التي بدأت تحدث في حياتي وأسأل الله أن يديم علي نعمة السرور بتلك التغيرات.... الحمد لله الذي نعوذ به من الحسد ما شاء الله أشعر أن المساجد تشدني إليها.............. ترتيب اليوم بدأ يختلف عندي أصبحت واعيا بمواعيد كل أذان أكثر بكثير من ذي قبل... ذلك أن علي أن أكون جاهزا للوضوء وللتواجد في المسجد بعد الأذان بعشر دقائق على الأكثر... أصبحت أشعر أن التواجد في بيت الله يوميا ما استطعت من المرات أمر لا يفرط فيه مؤمن أو لا يصح أن يفرط فيه مؤمن فرغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "جُعلت لكم الأرض مسجدا وطهورا" إلا أن الصلاة في بيت الله عز وجل بالتأكيد خير من الصلاة في غيره، وإنما جعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا تيسيرا للمسلمين وليس من الذكاء ولا الحكمة أن يـأخذنا التيسير إلى التفريط!
بالتدريج تسرب إلى القلب نوع من الألفة لوجوه المصلين الذين اعتدت رؤيتهم في الصف الأول والثاني معظمهم لا يتغير (وإن كانت بعض الوجوه الجديدة عليَّ تظهر في الصف الأول أو الثاني من حين لآخر ومنهم نوعان أحدهما عابر يصلي الفرض ويمضي وهو غالبا عابر مر بالمسجد فصلى فيه فرضا حان موقته وهؤلاء كثرٌ لأن المسجد يقع في واحد من أكثر ميادين الزقازيق زحاما، وأما النوع الآخر من الوجوه فهو وجه الرفيق القديم كما أسميه وسأفصل في وصفه بعد قليل) المهم أن هذه الوجوه الثابتة مع كل صلاة -وجوه سكان الصفين الأولين خلف الإمام- قد أصبحت رؤية أحدها تشعرني بالطمأنينة وأخذت أفكر في عظم ما يخسره المسلمون بتفريطهم وإهمالهم الصلاة في المسجد.. هذا أنا أجد نفسي أشعر بالشوق إلى وجوه جيراني في الصلاة حتى أنني عندما أعود إلى هذا المسجد ظهر كل يوم اثنين (حيث أصلي السبت والأحد في مسجد عبد السلام ترك بالقاهرة) أجد نفسي مشتاقا لوجوههم أبحث عنهم واحدا واحدا وأشعر بالقلق إذا تغيب أحدهم يا ترى أي نوع من العلاقة هذا؟....
وأما الموقف الذي كثيرا ما تكرر وفهمت منه كثيرا وأثر في نفسي أكثر فهو موقف سكان الصفين الأولين من الرفيق القديم حين يظهر لي وجها جديدا بين الحين والآخر مصليا في الصفين خلف الإمام، هذا الرفيق تجد الجميع يسلمون عليه وبعضهم يعانقه وكل الوجوه تنظر إليه وإلى بعضها مطمئنة مبتسمة، ومنذ المرة الأولى التي لاحظت فيها وجها جديدا يحتفي به الجميع فهمت أن هذا لابد واحدا من رواد هذا المسجد شاء قدره أن يسافر وهو كلما عاد عاود المسجد ليلتقي بمن -لا شك لدي- هو في شوق إليهم ربما مع كل صلاة أيام ابتعاده عن المسجد..... إذن هذا سيكون حالك قلت لنفسي لو أنك سافرت يا وائل فهل يا ترى ستتمالك نفسك أم ستبكي؟.... في كل مرة يظهر فيها وجه رفيق قديم كنت أتمنى لو أنني لا أحد ينتظرني في العيادة لأطيل الجلوس في المسجد بعد الصلاة فلابد أن هؤلاء الأحباب يتسامرون ويحكون ويسمعون أخبار المسافر الذي عاد... هذا الحب الذي يشمل كل رواد المسجد المنتظمين لم أجده في أي مكان ترددت عليه في حياتي كلها غير المسجد وخاصة مسجد المحافظة على القرآن الكريم، أي نوع من المشاعر هذا؟ ما أسماه! وما أنقاه! وما أروعه! واأسفاه على كل من لا يصلي الفروض في المسجد.
بدأت أتخيل حياة كل واحد من سكان الصفين الأولين وكنت متأكدا من أنهم مثلي رتبوا أعمالهم وجداولهم اليومية بحيث يكونون في المسجد في وقت الصلاة، وأتخيل أثر استمرار الواحد منهم في هذه الصحبة المباركة؟ ماذا لو أن أحدهم وقع في مشكلة أو أصابه أو أحد أفراد أسرته مكروه؟ كيف سيكون تصرف جيرانه هؤلاء في المسجد؟ كيف سيكون له بدلا عن الرفيق الواحد عشرين من المصلين الأتقياء؟ لا أظن أن دعما اجتماعيا مثل هذا يمكن أن توفره أي مؤسسة من المؤسسات غير المساجد، هؤلاء الناس بلا شك أصلب كثيرا في مواجهة مصائب الدنيا وردود أفعالهم قد لا يكون فيها كثير من الاكتئاب أو القلق التفاعلي، ليس فقط لأنهم أتقياء مؤمنون ولكن لأن لكل منهم شبكة دعم اجتماعي لا نظير لها.... كم أتمنى أن ييسر الله لي فأجري دراسة أقارن فيها بين عينة من الرجال العاديين في المجتمع وعينة من الرجال سكان الصف الأول والثاني في أي مسجد، فنقيس ونقارن مدى الصلابة في مواجهة أحداث الحياة ونقارن الشعور بالدعم الاجتماعي وغير ذلك كثير، اسألوا الله أن ييسر لنا مثل هذه الدراسة.
واليوم حمدت الله كثيرا فقد شعرت أنه تقبل دعائي وهو ما شجعني على الإكثار من الدعاء، اليوم هو الرابع من ذي القعدة 1431 وأنا في عيادتي الخاصة بالزقازيق في الحادية عشرة والنصف صباحا أي قبل أذان الظهر بأقل من ربع الساعة فاجأني سكرتيري بأن لديه حالة جديدة تريد الكشف فقلت له انتظر لبعد صلاة الظهر يا محمد فكان رده: ما يزال 12 دقيقة يا دكتور على أذان الظهر وتخميني أنه ليس ممن يطول لقاؤك الأول معهم.... وبالفعل دخلت الحالة.... وصدق تخمين السكرتير إذ وُفقت إلى التشخيص ووضع الخطة العلاجية في رأسي ولم يبق إلا أخذ موافقة الحالة عليها بعد توضيح الخيارات قدر الإمكان وهنا أذن الظهر فتابعت الشرح واتفقنا على خطة العلاج وكتبت الوصفة العلاجية وشرحت طريقة الاستخدام وأهم الآثار الجانبية المتوقعة وتأكدت من استيعاب الحالة لكلامي وحددت الموعد القادم وانصرفت الحالة،.. وبعد الأذان بدقائق سبعة كنت جاهزا على باب العيادة أبدأ الطريق إلى مسجد المحافظة على القرآن حوالي 200 متر بين شارع وحارة تجارية وزقاقين يتوزع فيهما نجارو الأثاث المنزلي الخشبي وأنا ألقي السلام على كل من أمر عليه بين الاستغفار والاستغفار وأنا أجتهد في مشي فلن يبقى عند الوصول إلى المسجد إلا ثلاثة دقائق......
بالفعل وصلت إلى المسجد واتجهت إلى مكان في الصف الثاني خلف الواقف على يمين الإمام وفي تدبيري أنني بعد صلاة ركعتي تحية المسجد سأتقدم للصف الأول عند الإقامة وهكذا والحمد لله فعلت وفي اللحظات السابقة لتكبير الإمام همس جاري الأيسر لي قائلا "لما تسجد اسجد على منخارك وجبهتك لابد أن يكون منخارك على الأرض" رددت دون تفكير قائلا أعرف! فكرر ما قاله مرة أخرى وكبر الإمام فدخلت في الصلاة.. وبينما نحن في الركعة الأولى فكرت: "أنا أعرف أن السجود يكون على سبع فما هي الحكاية؟ أتذكر أني أسجد سجودا صحيحا!" وقررت أن أنتبه أثناء السجود، وقلت سأجعل منخاري أول ما يلمس الأرض لأتأكد وحين فعلت وجدت أنني أغمضت عينيّ لأن النظارة الطبية التي نصحني طبيب العيون بأن أرتديها دائما ما دمت أمشي أو أحادث الناس -لأن لدي ضعفا في العين اليسرى يؤدي عدم تصحيحه إلى زيادة الضعف مع الوقت-.... إذن انتبهت أن صلاتي بالنظارة غالبا ما تؤدي بي إلى رفع المنخار قليلا... علي إذن أن أخلعها قبل الصلاة.... وأكملت الصلاة خلف الإمام، حتى إذا انتهيت منها وسبحت سلمت عليه شاكرا وقلت في نفسي لعل ربي استجاب دعائي وأنا أقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وبينما أنا في الطريق إلى العيادة مر في خاطري أنني من قبل فكرت في تفسير السبعة أعظم التي أمر سيدنا محمد رضي الله عنه بالسجود عليها كما في الحديث الذي سمعته من أبي -رحمة الله عليه- وعددتها فإذا هي أصابع القدمين والركبتين والكفين والجبهة! ثم قلت إذن سأبحث على الإنترنت وكان تصديقا لنصيحة جاري في الصف الأول أن وجدت هذا الحديث الشريف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب والشعر) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم..... إذن فقد صدق ناصحي وبدأت أنتبه أكثر لمكان أنفي في كل سجود.
الحمد لله الحمد لله.... دعوت ربي في رمضان أن يعلق قلبي بالمسجد وأجاب المنعم دعوتي سبحانه ودعوته أن يعينني على إحسان العبادة فهيأ لي من يصحح لي ويساعدني على إحسانها فعلا... يا ألله ما أعظم ما تمنحني من فضل سبحانك ومن رحمة، ومن ارتباط بالمسجد فأنا من بعد العصر أو المغرب أسافر كل جمعة من الزقازيق إلى القاهرة لأداوم في عيادتي القاهرية وهناك أصلي في مسجد عبد السلام ترك الذي سأكتب عنه في المدونة القادمة وأشعر بالشوق الشديد إلى مسجد المحافظة على القرآن الكريم حتى أنني أحاول السفر كل يوم أحد قبل المغرب من القاهرة عائدا إلى الزقازيق سائلا ربي أن يمكنني من أداء صلاة العشاء في مسجد المحافظة على القرآن.
واقرأ أيضًا:
ليلة عيد الفطر ...1431 هجري 2010م / رأس السنة الميلادية 2011 سامحوني
التعليق: مدونة مؤثرة ورائعة ، شعرت خلال قراءتها بالشوق للمسجد وعشت حقيقة مع ذلك الجو الروحاني الدافئ الذي يصوره دكتور وائل ببراعة