مثل كل الشباب في مثل عمري أنذاك كان معنى الاقتراب من الالتزام الديني يعني ضمنا وعلنا وتلقائيا الابتعاد عن الفن بكل صوره!!
قائمة ممنوعات يبدأ كل من يلتزم دينيا في تطبيقها طوعا تشمل التوقف عن سماع الموسيقى بأنواعها، ومختلف مصادرها الثقافية والجغرافية والزمنية، وكذلك الأغاني، وشملت عند البعض حرق نصوص المسرحيات العالمية التي طبعتها وزارة الثقافة عندنا، أو المجالس المناظرة في دول عربية أخرى مثل الكويت أو العراق...إلخ، كما تشمل الامتناع عن المسارح، وعروض الأفلام، وأنواع العروض والمعارض الفنية.
مقاطعة كل الأنشطة الفنية الرسمية والأهلية، وإتلاف كل مادة تحمل رائحة الفن كانت بديهيات لا تحتاج إلى تذكير في صفوف الملتزمين، وما زالت كذلك في حياة قطاع لا يستهان به منهم!!
وكنا نرى ما يقوله شيخنا الغزالي رحمه الله، أو ما زال القرضاوي ـ متعه الله بالعافية ـ يقوله في شأن الفن، كنا نراه ترخصا، وقد نوافقهما في شئون، ولكن نأبى الاقتناع إذا ما تعلق الأمر بالفنون!!
المفارقة حملت صديقا أصبح يحمل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، وكان وقتها ما يزال طالبا، أو في أعقاب تخرجه مباشرة، استفزه هذا المشهد بين أغلبية تقول بالتحريم القاطع، وأقلية تقول بغير ذلك، فقام الصديق ببحث فرغ له نفسه فترة، وقرأ كل ما هو متاح عن الموضوع قديما وحديثا، واستمع، وشاهد ما وصل إليه من مواد مرئية أو مسموعة ليخرج برسالة طبعها في كتيب تؤكد تقريبا على ما أتعب نفسه في محاولة نفيه أو إثباته من أن الفن مثل أي نشاط إنساني يحمل الصواب والخطأ، والحلال والحرام بالتالي، وأن القول بالتحريم المطلق هو محض تشدد وغلو لا يستند إلى منطق سليم، مثل الإباحة المطلقة تماما، وأن النصوص التي يسردها القائلون بالتحريم إما أنها مرويات ضعيفة، أو أنها تحمل من المعاني ما ينصرف إلى نوع معين من اللهو، أو نمط معين من العيش، ويذهلني أن أغلب المسلمين يعيشون هذا النمط من الحياة الاستهلاكية المادية الطامحة إلى متاع الحياة الدنيا سواءا سمعوا الطرب، أو أعرضوا عنه!!
ومن غفلة المسلمين عن عظمة دينهم تراهم قد أعرضوا عن نشاط حمل حضارتهم إلى العالمين لقرون حين كانت الفنون الإسلامية تغزو الدنيا بتألق وروعة ودقة صنعتها ما بين نقش ورسم وخط، وقل مثل ذلك في أشكال العزف الموسيقي، بل والرقص الصوفي، وفنون الحكي، والتشخيص بالعرائس، ورواية الملاحم والسير مما اندثر أغلبه، ولم يبق غير أطلال تدل على تاريخ مجيد في التمدن والرقي!!
في هذا البلد أو ذاك ستجد متحفا للفن الإسلامي، أو معرضا لنوع من أنواع أو أشكال الإبداع عبر خامات مختلفة، ومن أقطار سيدهشك أن الإسلام قد عاش فيها، وأعطى الناس كل هذا الجمال، ومن عجب أن أغلب رواد هذه الأنشطة من الفرنجة الدارسين والمهتمين، بينما يتحرج أصحاب البيت من معرفة فنونهم وتاريخها وتنوعها وعظمتها!!!
وكان طبيعيا والحالة كهذه أن تنشأ أغلب الفنون الحديثة نسبيا مثل المسرح والسينما، والفيديو أرت، والفنون التشكيلية الحديثة بعيدا عن الدائرة العربية والإسلامية، وتظل محاولات العرب والمسلمين للتعامل مع هذه الفنون تتحرك وسط حرج مزمن من حرمة الفن، والاشتغال به، والاهتمام بتذوقه، ومتابعته، ويختلط عندنا الغث بالسمين، والجيد بالتافه، وبسبب عزوف أغلب الجادين عن الدخول في مساحات "حرجة" صار المتوافر المتاح للناس من هذه الفنون متواضع القيمة غالبا، وربما منزوع القيم! وقد نجد من بين مائة ألف معترض أو متحفظ، واحد فقط، وقد لا نجد واحدا يخوض مغامرة الإبداع والتميز ليقدم لنا وللعالم قطعة إبداع تؤثر في الوجدان والشعور، وتتواصل مع الأفئدة والعقول بلغة الفن، أكثر لغات العالم انتشارا، وتأثيرا.
أكاد أجزم أن في مصر ما يزيد على المليون من خريجي الكليات الفنية المختلفة على مدى أكثر من خمسين عاما وربما ستين أو سبعين في حالة بعض الكليات الأقدم، ثم تبحث عن أثر للفن الراقي في حياتنا فلا تجد!!
هو غياب مأسوف عليه لأنني صرت أعلم تماما أن التشوهات التي أصابت عقولنا ونفوسنا عبر مضخات القبح والغباء، وآليات وماكينات صناعة المسوخ في بيوتنا ومدارسنا وشوارعنا ومؤسساتنا، هذه التشوهات تحتاج إلى علاج يستطيعه الفن بأساليبه وأدواته وبرامجه، بل وتدخل الفنون منذ عقود في اختبارات التشخيص النفسي، والتنشئة التربوية، وعمليات التعلم على أوسع نطاق في العالم الفاهم المتقدم في هذه الشئون، بينما نحن ما زلنا نضرب أخماسا في الأسداس، ونسأل الفقيه: هل الموسيقى حلال أم حرام؟!
أنظر حولي فأجد الشباب والكبار ينظرون للفنون بوصفها مجرد ترفيه في وقت الفراغ القاتل الذي يعانون منه، ولا تكفي الطرق والوسائط الحكومية الكسيحة لتوصيل الفنون الجيدة إلى من يحتاجونها فلا يصل إلا التجاري المتهافت، وأهل الالتزام ما زالوا يتحسرون ويحوقلون، أو أفاق بعضهم بعد طول غيبوبة ليكتشف أن في الموسيقى والغناء ما هو أصيل وجميل كما فيها منكر ورذيل!!
وكالعادة نكتفي بالفرجة دون مغادرة الإبداع، ودون التنقيب والبحث عن الأفضل، ودون بعث فنون رائعة مندثرة بدلا من المستوردة الغريبة على ثقافتنا حين تجد بلدان الوفرة، ومجتمعات الوفرة المادية نفسها أمام أنواع الفنون فتحتار، وربما تختار البالية، أو حفلات الغناء الأوبرالي، أو معارض الرسم السريالي بما سيعتبره الجمهور لغوا غريبا على أسماعه وثقافته، ولو أنصفوا لكانت البدايات غير ذلك!!!
وأتحسر حين أرى الملايين منا بلا معرفة عن طريق كتاب، أو عن طريق رسم مرقوم، أو مشاهدة هذا العرض أو ذاك، وأتحسر حين تقام المهرجانات الرسمية أو الأهلية لهذا الفن أو ذاك، أو تفتتح المعارض أو المتاحف أو محلات العروض المسرحية، أو الفنون (الجاليريهات) ثم لا أجد جمهورا يهتم أو يناقش، أو يتذوق أو ينتقد، فضلا عن أن يجرب ويهتم ليتعلم ويبدع، ولو قليلا!!
أشعر أننا نتعامل مع قشور الفن كما فعلنا مع الدين حين اقتصرنا على قشوره ومظاهره، وبعض شكلياته، وكما نتعامل مع العلم ومناهجه، وعظمة مغامرة السؤال فيه، والتأمل والتدقيق والتوثيق في البرهان والشك!!
كيف تنتصر أمة لا تقرأ، ولا تسأل، ولا تبدع، ولا تتعلم؟!
ماذا نربي، وكيف نربي أطفالا دون رسم يدرب الخيال كما عضلات الأصابع، ودون موسيقى تعلم ضبط الزمن كما نغمة الغنة، وطول المد في التجويد، والتغني بالقرآن؟!
أي أرواح تلك التي بين جوانحنا، ونحن نتعامى عن مشهد السماء، وألوان السحاب، وزبد البحر، وزرقة الموج، وتنويعات الطيور والفراشات والأسماك والأزهار والأشجار في هذا المعرض الفني المسمى بالعالم؟!! وهل يستوي الأعمى والبصير في ذلك؟!
كيف يمكن أن يكون الإنسان مؤمنا حقا دون أن يكون فنانا يفهم ويتذوق، وتقشعر نفسه المرهفة الحساسة من دمعة حزن، أو من أن يترك المكان على غير نظافة، أو انعدام ترتيب؟!!
لا أنتظر ولا أرجو خيرا قريبا من التعليم النظامي ولا التعليم الخاص فضلا عن التعليم الأجنبي، بينما هذا الطريق المهجور هو الوحيد ربما الباقي أمامنا للانعتاق مما نحن فيه!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: خطاب إلى العقل/ على باب الله: نحو الأمل: تأملات مسافر