تجتاح نفوس المصريين موجة جديدة من الغضب العارم في أعقاب وقائع مهزلة من المهازل التي صارت هي مكونات حياتهم في شتى النواحي!!
في حديث جرى بين أساتذة للطب النفسي تأمل بعضهم وقال: ما الجديد؟! مصر يحكمها الملك ووكلاء الكهنة، منذ آلاف السنين!!
تاريخ القهر طويل تعلم منه المصري أن يحترم ويخاف أصحاب السلطة والثروة، والكهانة في مصر سلطة، والعسس هم جنود الفرعون/ الإله، والمصريون يسخطون أحيانا، ويرضون قليلا، ويثورون نادرا، وهذا لا يصنع تغييرا.
ولأن الغضب موجع نعمد إلى التخلص منه بسرعة، ولم نتعلم كيف ندير تلك الطاقة الساخطة الغضبية التي يمكن ترشيدها واستثمارها مع عقلنتها، إذا تعاملنا معها إيجابيا، لكننا لم نتعلم كيف نفهم الغضب أو نحترم السخط، فضلا عن الحفاظ عليه أو توظيفه!!
يوجعنا الغضب، ويأكلنا الإحباط، ويشتد بنا الحزن والاكتئاب، ويحزم المترددون حقائبهم للسفر، ويعاير المتشائمون المتفائلين، ونتحازن قليلا أو كثيرا ثم ننسى وآفة حارتنا هي النسيان، كما قال نجيب محفوظ، وتتوالى المحن والخطوب والكوارث، ونحن لا نتغير: نفس السخط، ونفس آيات التعامل معه/ ثم نفس النسيان!!
وبدلا من الحزن المكتوم يختار بعضنا الهذيان فتسمع حين يشتد الغضب، أو تقرأ كلاما لا منطق فيه، ولا رائحة للعقل، ولا أثر للرشد، ويتفنن البعض في "العديد"، وهو إبداع مصري قديم يتجدد بأقلام فئة ممن يحتلون مساحات في الصحف والمجلات، أو بعض الكتاب الجدد عبر الفيس بوك، أو المدونات، يحسبونها كتابة، وهي مجرد عديد!!
ترى متى سنفهم فنتعلم "الغضب الخلاق"؟!!
***
طبعا لدينا أسباب كافية للغضب، وملايين الحكايات عن وقائع ومفارقات، وجراح كثيرة مفتوحة، وأوجاع بعضها مزمن، وبعضها يتجدد أو يستجد.
وتمر بالأفراد كما الأمم نوائب وخطوات، وهزائم في حروب، وجبابرة وجلادون وطواغيت، ولا تتغير الأحوال السيئة إلا بخطط وخطوات، وخيال مبدع، وأعمال منجزة، والمشكل أن الغاضب والمحبط والمكتئب يعتل تفكيره، وقد تشله مشاعره عن أن يتأمل أو يراجع فضلا عن أن ينهض، أو يتحرك!!
وأندهش كثيرا حين أرى الإحباط يتخطف الأفئدة والعقول، بينما لا أجد أية مبررات لتوقعات بالتغيير نحو الأفضل نكتئب على خلفية عدم حصوله!!
من أين يأتي الناس بتفاؤل بمبررات غير منطقية، أي لا منطق لها، ولا محل، ثم حين يحصل ما ينبغي أن يتوقعه أي راشد يغرقون في حالة الإحباط، ونظل في هذا الترنح بين تفاؤل ساذج بلا مقدمات عملية، ولا خطة ولا خطوات، ثم إحباط أسود يوجعنا فنتحازن أو يحزن؟!!
أفهم أن مجتمعا يناضل أفراده في سبيل تغيير أحوالهم، ويدفعون ثمن هذا التغيير عرقا ودما، ومالا وجهدا فينتظرون حصادا لما يزرعون، فإذا تخلف الحصاد حزنوا، لكن من لم يزرع غير الهواء والهباء والأماني ماذا ينتظر أن يحصد غير الهشيم، أو قبض الريح؟!
ماذا كان الناس في بلدي ينتظرون غير ما حصل فعلا في تلك الانتهاكات المشوبة ببعض من ممارسات تشبه الانتخابات؟!!
تلك الانتهاكات المشوبة بانتخابات كانت متوقعة تماما، وربما أسوأ، فلماذا الحزن والاكتئاب، وخيبة الأمل؟! ومن المسئول عن وجود ذاك الأمل الخادع الذي خاب؟!!
***
في غمرة هذا الحزن ضاعت معالم المشهد الذي أرى بوضوح أنه لا يخلو من نقاط بداية هامة لمرحلة من مراحل العمل والنضال لمن يريد شيئا غير الحزن، أو التهكم، أو تبادل الاتهامات، أو مجالس النميمة، أو الاكتفاء بالفرجة، ومصمصة الشفاه.
هناك فضيحة بجلاجل لسلطة غاشمة أسقطت أوراق التوت، وأقنعة التجمل عن كل رموزها لتبدو الحقيقة لمن يريد أن يراها، وهناك بطولة لقوة جماهيرية تنتزع شرعيتها السياسية بالثبات في معركة غير متكافئة، وتنضج في أتون مناخ خانق، وتكسب تعاطفا متزايدا، ورصيدا شعبيا وسط الناس.
وهناك صف طويل من شخصيات ورموز سياسية أهينت، وتشعر بالغضب الذي يبحث عن توظيف، أو تنفيس على أقل احتمال، وهناك تململ دولي من تصرفات سلطة فشلت في الكذب الأنيق، وصارت تدفع بالملايين من رعاياها للحنق المتراكم على أولئك الرعاة الأجانب بصمتهم أحيانا، وبدعمهم المباشر غالبا، وربما لا يجد الرعاة مساءلة مزعجة عن ماهية خطتهم لهذه السلطات؟! وتلك الأنظمة؟!! وعموم المنطقة؟!
وهناك قوى قاطعت الانتخابات، وراقبت الوقائع، وسجلت الخروقات، وأحرزت نتائجا، وكونت خبرات وتجارب منتزعة من عصابة شرسة متمرسة في الإفساد.
طبعا كان التزوير سهلا لأن كل مفرداته في قبضة العصابة، ولكن بقية المشهد لم يكن سهلا أبدا، وتضمن تفاصيل كثيرة جديرة بالإعجاب والإشادة، وقابلة للبناء عليها، واستثمارها فورا، لمن يفهمها، ويرغب!!
أنا فخور بكل هؤلاء الشرفاء، ولا أريد لهذا الجمع المحترم أن ينفض أو يتبدد في غمرة حزن، أو تبادل اتهامات، أو اندفاع معتاد في جلد ظهور من عملوا ما في وسعهم، وقدر طاقتهم، دون أن يعني ذلك أن الكمال لأحد!!
في تأملات لا تنقطع بدا لي أن ضجيج الإعلام الصاخب، وطوفان الصور والكلمات الذي يستهلكنا بأكثر مما نستهلكه قد أقام في أذهاننا مشهدا أسطوريا خياليا عن غضب يتراكم، وفسادا يستشري، واعتراضات هنا وهناك، وأن هذا يحتم تغييرا ما، وخبرات التغيير في حياة الإنسانية تقول أن هذه المقدمات كلها لا تكفي لإنجاز التغيير، فما زالت حالتنا تفتقر إلى هياكل فكرية وحركية تعمل بدأب وانتظام، وتتشابك وتتعاون وتتكامل في القيام بدور روافع التغيير، وبدون تجمعات منظمة، ورؤى ملهمة، وخطط ومهام نصبح في مهب رياح الفوضى، أو التغيير العشوائي الذي لا تعيش نتائجه كثيرا، بينما بناء مجتمع ديمقراطي يحمل تغييرا يدوم لفترة يستلزم الكثير مما نفتقده حاليا، ولا مشكلة في أن نبدأ فورا في البناء على المعطيات المتاحة ـ وهي كثيرة ـ وتجميعها، لأنها مبعثرة، ورتق فتوق كثيرة تبدو واضحة في سعينا إلى التغيير.
لدينا حيوية اجتماعية عالية للغاية، وأجيال شابة متوترة ومتوثبة، ولديها طموح طاغٍ للمنافسة على الصدارة الإقليمية، وتحقيق معدلات إنتاج وإبداع عالية، ومغالبة الإحباطات والمعوقات والقيود، وتجاوز تقاليد العجز والانهزامية والغباء المزمن، وهذه الأجيال متواصلة دوليا بشكل لا بأس به، وتمتلك مقدمات رائعة تستحق الاهتمام والتشجيع والتطوير.
ولدينا حيوية هائلة في مجالات التعبير والكتابة، والإبداع المسموع والمرئي في الفنون التشكيلية والسرد القصصي والروائي والمسرحي والسينمائي، وكلها مجالات لازمة لتطوير الوعي بطرح الأسئلة، وإنماء التنوع الخلاق، وصقل حماسة الأجيال الجديدة، والتواصل مع العالم أخذا وعطاءا.
ولدينا حماسة دينية جارفة أنتجت في سياقات وملابسات معينة نوعا من التعصب والانغلاق، ولكن الدين بطبيعته الأصلية يمكن أن يكون رافعة هائلة للتنوير، والانسجام الاجتماعي، والتحفيز على الإنجاز والتغيير، وإلهام المصلحين في كافة المجالات كدحا إلى وجه الله الكريم، ولكن تطوير أشكال وأهداف وخطابات التدين هي مهمات ملحة، وليست مستحيلة.
وهذه كلها مجرد أمثلة على ما لدينا ولا نحترمه فضلا عن استثماره، ومراجعته، وتطويره.
***
إن عقلية الانحباس في العوائق، والشلل أمام السلبيات، وإدراك الخبرات المؤلمة والمشكلات بوصفها مجرد فشل متجدد، رغم أن الإنسان لا يتعلم بلا ثمن، أو هو يتعلم بالألم تلو الألم، شريطة أن يتضافر مع الألم نوع من الوعي، وبعض من العزم، ثم كثير من العمل.
إننا قادرون بكل المقاييس المادية على قيادة المنطقة نحو أفق تنتظره، ولا يحول بيننا وبين ذلك إلا الخراب المعنوي والعقلي، والقصور في الخيال الإبداعي، وجمود التنسيق الجماعي، وروح الفريق.
ويخنقني أن أرى بني وطني في التيه يتخبطون يائسين محبطين رغم أنه لا يحول بينهم وبين الوصول إلى أهدافهم المنشودة سوى طغيان تصورات، وغياب تصورات!!
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول
واقرأ أيضاً:
على باب الله: إنه الفن يا أحمق /على باب الله: حلو الشام