ساخن من مصر: أيام الغضب الخميس
في صباح جمعة الغضب نظرت أول ما استيقظت إلى ميدان التحرير فوجدته فارغا إلا من جحافل الأمن المركزي تحيط بالمسجد وكان ذلك متماشيا مع ما سمعته بالأمس من أنهم سيمنعون الصلاة بالمساجد الجامعة أو الكبيرة.... قلت أنا إن شاء الله سأصلي في الزقازيق وكان علي أن أنجز بسرعة إجراءات مغادرة الفندق، وحقيقة لم أكن أتوقع كل هذا الزحام في استقبال الفندق فقد غاب عن تفكيري أن كل نزلاء الفندق سيغادرونه قبل صلاة الجمعة.... ثم اكتشفت بعدما استطعت الوصول إلى واحد من موظفي الاستقبال أن إدارة الفندق وضعت منشورا يوزعونه في الاستقبال لا أدري هل من يوم الخميس أو من صباح الجمعة الله أعلم لكن المكتوب فيه هو أن إدارة الفندق تنبههم إلى وجود احتمال كبير لحدوث اختناقات مرورية وعوائق سير في طريقهم إلى مطار القاهرة الدولي.... وعجبت من نفسي كيف لم أنتبه لمثل هذه الاحتمالية رغم أن مستشار مجانين أ.د السيد صالح قابلني في ردهة الاستقبال مساء الخميس مسافرا إلى المنصورة ولما سألته لماذا الاستعجال قال لي غدا لن نستطيع الخروج من ميدان التحرير وأود أن أكون مع الناس في المنصورة.
على مدى عشرين سنة أو يزيد لم أتكلم مع أحد من الناس عن النظام المصري إلا وكان ساخطا غاضبا و/أو يائسا باستثناء أفراد لا يكملون عدد أصابع يد واحدة..... معنى ذلك أن المثل الذي تعلمته من أستاذي د. يحي الرخاوي "دي مش دبانه دي قلوب مليانه" سينطبق على أحداث مصر أكثر من انطباقه على أحداث تونس فرغم كل ما عانى منه التونسيون من ظلم واستبداد ونهب لثروات البلاد والعباد فإن شعبا لم تهن كرامته ويستهان بقيمته ويستخف بوجوده وبرغباته وآرائه وتفرض عليه الخيانة مثلما هو حال المصريين الذين يخزيهم الاتحاد المفضوح بين سياسة النظام المصري وبين مصلحة إسرائيل ومعاونتها على حصار غزة وعلى خداع الفلسطينيين والتهوين من عزائمهم فمصلحة إسرائيل تعلو عند النظام المصري ولا يعلو عليها..... ولذلك فإنك لن تجد مدافعين عن النظام المصري أشد حماسا ولا صدقا من الصهاينة الإسرائيليين فهو بالنسبة لهؤلاء كنز استراتيجي لإسرائيل في المنطقة كما جاء على لسان أحد المسئولين في وزارة الخارجية الإسرائيلية ويبدو أن النظام المصري لم يعلق على ذلك الرضا الإسرائيلي خوفا من الحسد! فرضا إسرائيل نعمة كبيرة بالنسبة لأمثال فرعون مصر الخائن.... وللتاريخ لم يوصف فرعون بالخيانة من قبل وإن وصف بالطغيان والكبر والجبروت والرئيس المصري لذلك كان وسيظل له السبق فهو أول فرعون خائن على مر التاريخ! فضلا عن اتصافه بكل أوصاف فرعون التي بينها لنا رب العزة في القرآن.
فعلا من المؤكد أن الأمور ستتطور فكل أهل مصر تقريبا ساخطون وينتظرون شرارة للتعبير عن سخطهم،.... لم أستطع مغادرة الفندق قبل الحادية عشرة وأربعين دقيقة وهو ما كان يعني أنني سأصلي الجمعة إن شاء الله في الطريق... عرفت منذ بداية الخروج من الفندق أن شبكات المحمول خاصة شبكة "فودافون" لا تعمل، وسمعت أن الإنترنت محجوب لكنني لم أكن في البداية أصدق أن الخدمة يمكن أن تحجب بالكامل، وأخيرا وقفت أمام مسجد كبير على طريق القاهرة الزقازيق في مدينة "بلبيس" على بعد عشرين كيلومتر قبل الزقازيق..... بداية أحبطني عدم وجود أي مظاهر أمنية حول المسجد وهو ما يعني ثقة مطلقة في موت الناس في هذا البلد..... صليت ولما يزال لدي الأمل... وبعد الصلاة خرجت إلى الساحة أمام أكبر أبواب ذلك المسجد الجامع.... لكن أحدا لم يقف وعندما تكلم أحدهم قال لرفيقه: "على فكرة اليوم سيكون هناك قلق كبير في القاهرة" فرددت ليس في القاهرة فقط بل يجب أن يكون خارج كل مسجد بعد الجمعة.... وكان الرد صاعقا: "لا البلابسة ناس طيبين" وشعرت بقلبي تدوسه طواغيت الجبن والتفاهة والهوان... خفت من دموعي وانطلقت في اتجاه السيارة حيث كانت زوجتي تنتظر.
لم أستطع أن أخبرها بما حدث فقد كان لدي أمل كبير ألا يتكرر مشهد بلبيس المخزي هذا في الزقازيق ولم أشأ أن أحبطها،.... وبالفعل كانت رائحة الزقازيق تشي بأحداث كبيرة... كنت أنوي الذهاب إلى وسط المدينة حيث عيادتي لأحاول دخول الإنترنت بأي طريقة –وكنت أظن ذلك ممكنا- فمعي مدونتان عن أيام الغضب المصرية، وهناك موعد فتح باب استقبال الاستشارات.... لكنني فوجئت بأن الطريق إلى وسط الزقازيق مغلق أمام السيارات بسبب التظاهرات.... قلت إذن أذهب لأركن سيارتي ثم أعود إلى قلب الأحداث، ركنت السيارة وحاولت الدخول إلى الإنترنت من مقر مجانين فلم أجد سبيلا للإنترنت.... قلت الحمد لله عندنا قناة الجزيرة.....
لم أستطع تحمل السير على قدمي من مكان سيارتي فقد كنت أشعر أنني لا أطيق الانتظار وبالفعل أوقفت سيارة تاكسي وقلت للسائق خذنا إلى مكان المظاهرة وكنت أتوقع منه أن يقول لا.. لا أستطيع الذهاب هناك لكنني فوجئت به يعطيني مسارًا للمظاهرة الحالية وتلك المتوقعة ويخيرني بين هذا المكان وذاك... فاخترت مظاهرة وسط البلد أمام مجلس مدينة الزقازيق لأنني توقعت أنها الأكبر والأهم كذلك كنت أريد إحضار الكاميرا من العيادة.....
بالفعل أصبحت في قلب المظاهرة....... كانت معي زوجتي وعبد الرحمن ابن أختي.... ولم أستطع التروي ووجدت نفسي كلها هتافا ساخنا الشعب يريد إسقاط النظام... ولم يكد يمضي وقت طويل حتى وجدت أن الصفوف تضاعفت ورأيت الناس يتوافدون من اليمين ومن اليسار من الشوارع الجانبية.... نسبة الشباب كبيرة لكنهم ليسوا كلهم شباب هناك كهول مثلي وهناك من هم أكبر سنا.... شعرت بالاطمئنان وكان موعد صلاة العصر قد اقترب فقلت لنانسي وعبد الرحمن سأذهب لأتوضأ وأصلي وأحضر الكاميرا.... وبالفعل ذهبت للعيادة لكنني اكتشفت أن الكاميرا تحتاج إلى الشحن ولم أكن لأكتفي بالتصوير بالمحمول.... قلت لهم سأصلي العصر ثم أعود أولا إلى العيادة لآخذ الكاميرا مشحونة.
صليت العصر وقابلت بعض الزملاء وسألتهم عن بعض مرضاي الذين نصحت لهم بالتظاهر.... وعندما رجعت فتحت الجزيرة وعرفت أن التظاهرات تعم مناطق عدة من الجمهورية ليس فقط القاهرة والإسكندرية والسويس وإنما أيضًا المنصورة والإسماعيلية وبور سعيد والشيخ زويد ودمنهور وكفر الشيخ، وأسيوط وقنا والأقصر.... والله أعلم هل بقية المدن هادئة؟..... تناولت الكاميرا ووضعت بطاريتها بعدما شحنت جزئيا ونزلت بعدما اتفقت مع نانسي على مكان نلتقي فيه،..... فاجأني أن المتظاهرين غير موجودين أمام مجلس المدينة وعندما سألت عن المظاهرة قيل لي أنها الآن في ميدان عرابي فاتجهنا إلى هناك وقبل الوصول إلى الميدان وعندما اقتربت منه ولاحظت عدم وجود ما يشير إلى التظاهر في الميدان... اتصلت بواحدٍ من أبنائي أعرف أنه في المظاهرة فقال لي أنهم أصبحوا الآن أمام مبنى المحافظة فاتجهت إلى هناك...
تردد بين المتظاهرين في ذلك الوقت أن ممثلي الأخوان المسلمين قد انسحبوا لسبب غير معلوم، وشعرت أنا من الهتافات أن الأمور يتم استغلالها من طرف القوميين والشيوعيين ووجدت داخلي بعض الضيق فأنا أفضل أن تبقى المظاهرات عفوية وغير مسيسة، وألا تنزل الهتافات إلى مستوى: "همه بياكلوا حمام وفراخ واحنا الفول دوخنا وداخ" فأنا أعتقد وأرى ما يؤيد اعتقادي أن ثورة الشباب هي ثورة باحثين عن العزة وعن الكرامة وليست لا ثورة جياع ولا ثورة بروليتاريا إذا استخدمنا الألفاظ الشيوعية.....
برغم ذلك كنت مصرا على الاستمرار على ألا أردد إلا ما أراه مناسبا من الهتافات مثل الشعب يريد إسقاط النظام أو ارحل.... ارحل... إلخ...... وبدأت التظاهرة بالسير في اتجاه مبنى مباحث أمن الدولة فاتجهت معهم إلى هناك وما كدنا نصل إلى الكوبري المقابل للمبنى حتى فوجئنا بأعداد كبيرة من المتقدمين وقد استداروا وانطلقوا يجرون في عكس الاتجاه وفي البداية لم أفهم لماذا... وإذا زوجتي تشدني وتصيح بي اجرِ وأنا رافض أقول لها لماذا.... وجاءت الإجابة أسرع منها حيث بدأت القنابل المسيلة للدموع تتساقط حولنا من اليمين واليسار ومن الأمام والخلف.... بدا جيدا أن الأمن لم يكن يترك التظاهرة دون تدخل منه إلا ليجمعهم في مكان يستطيع تطويقهم فيه ثم إلقاء القنابل عليهم .....
نسيت أنا فيما يبدو أن صدري مريض وليس كما كان أيام الجامعة ولم آخذ حذري جيدا شعرت بالحرقان الشديد في عيني وأنفي وصدري وسالت من كل سوائله.... وبرغم ذلك كنت بطيء الحركة بشكل أستغرب له عندما أتذكره لكأنما كنت أريد التأكد مما حدث.... التظاهرة بدأت سلمية وظلت كذلك ولكن عناصر الشرطة بدأت بالاعتداء عليهم..... يا ترى لماذا؟ هل فقط لأنهم أغبياء؟
الغريب والمضحك المبكي في المشهد كان أننا وبعد العناء الشديد الذي لاقيناه في محاولة الخروج بعيدا عن قطع الدخان المسيل للدموع المتضخمة، وكلما اتجهت اتجاها سُدَّ في وجهك بجدار أمني من العساكر متلاحمي الأيدي أو وجدته شارعا مسدودا.... أخيرا بعد عدة محاولات وبعد أن أصبحت الدموع بكاء وفاضت سوائل الأنف على شفتيك.... أخيرا تجد السبيل للخروج من الحصار الذي يقصد به محاولة معاقبتك على التظاهر قدر الإمكان،...... المضحك المبكي بعد كل هذا هو أن يعتذر لك ضباط الأمن المركزي وعساكرهم وأنت تخرج من بين سياراتهم قائلين: "سامحونا..... غصبا عنا"! من إذن الذين يأمرونك يا حضرة الضابط؟ وإلى متى تطيعهم فيم يأمرون؟.
في المساء لم يكن شيء إلا أن أعداد المتظاهرين تتزايد وأماكن تظاهرهم تتوالد.... وانتظرنا رئيس مجلس الشعب ليبلغنا بالأنباء الهامة فإذا هو خطاب للرئيس الذي خلعه شعبه.... وإذا بالخطاب دون مستوى الحدث بشكل مستفز فهو يتكلم عن تسريح حكومة واقتراح حكومة جديدة منتهى الاستهانة بما سمعت الناس تردده يا أيها الفرعون المخلوع..... متأكدا كنت من أن هكذا أسلوب سيؤدي إلى تفاقم الوضع... لكننا كان لزاما علينا الانتظار للغد.
يتبع..............: ساخن من مصر: أيام الغضب السبت1
واقرأ أيضاً:
رأس مصر العربي/ الحرب النفسية في معركة ميدان التحرير/ حرب الترويع والتجويع