إننا نشهد هذه الأيام ثورة من نوع جديد لم تشهده أجيال 1952، ولا 1967، ولا 1973. هذه المرة لم يكتف الشباب المصري بالتصفيق والتأييد والمساندة والتطوع ولم يقفوا عند حدود الاعتراض والتذمر والنقد والإدانة، بل مارسوا الثورة بأنفسهم. ولا بد لنا من الاعتراف بأن أحدا من الأجيال السابقة ومنهم الجيل الذي أنتمي إليه قد توقع شيئا مما حدث بهذا الحجم. صحيح أن منا من قال ولكن أحدا منا لم يفعلها ولذلك فليس لأحد منا أن يتبرع بالنصيحة باعتباره الأكثر خبرة، فخبراتنا تنتمي لزمن قديم اكتسحه هؤلاء الثوار الجدد وأسقطوا العديد من أوهام ذلك الزمن القديم.
ولذلك حين كان يسألني البعض عن رأيي فيما يجري وتوقعي لمساراته كنت أردد بمنتهي الصدق "إنني لم أستطع أن أتنبأ بسلوك شباب أسرتي شخصيا فكيف لي أن أجرؤ على تقديم النصيحة لجيل الشباب الذي يصنع ثورته. إن نصائحي بحكم السن تستند إلى خبرتي القديمة التي عفا عليها الزمن. إن أحدا من أبناء جيلي القديم لا يستطيع أن يقترح عليكم موقفا وغاية ما يمكن تقديمه هو بعض الآليات العامة التي قد تصلح للتعامل مع الموقف الذي يختاره الشباب مع الحذر من الانزلاق إلى إدانتهم مهما بدت لنا مواقفهم خاطئة أو مغامرة أو حتى مشوشة".
لقد أسقطت ثورة هؤلاء الشباب عددا من الأوهام التي سيطرت على عقولنا، وإسقاطهم لتلك الأوهام وبصرف النظر عما سوف تسفر عنه ثورتهم هو ما سيظل راسخا في الوعي المصري محددا ملامح صورة مصر في عيون المصريين طيلة الأجيال الثلاثة القادمة.
الوهم الأول:
لقد تسرب إلى عقول العديد منا أننا متشددون بل متعصبون دينيا، وأن الشرطة هي التي تقي كنائسنا من ترصد وعنف الأغلبية المسلمة المتشددة، ومع ثورة 25 يناير اختفت الشرطة بشكل مريب وتام من شوارع كافة مدن المحروسة، ومن ثم سقطت الحماية عن الكنائس، فماذا حدث؟ لم يقذف حجر واحد على كنيسة، بل شاهدنا المعتصمين في ميدان التحرير وميادين مصر لا فرق بين مسيحي ومسلم بل أصبح من المستحيل الحديث عنن موقف مسيحي مقابل موقف إسلامي.
الوهم الثاني:
تباكينا طويلا على ضعف انتماء الشباب المصري، وانصرافه عن الاهتمام بالشأن العام إلى الاهتمام بتوافه الأمور، وتطوعنا بتقديم العديد من التفسيرات للظاهرة كما لو أنها حقيقة لا شك فيها، أرجعها بعضنا إلي أنه لا انتماء مع الفقر، وأرجعها البعض إلى القهر السلطوي، وأرجعها البعض إلى ضعف مؤسسات التنشئة السياسية أو إلى غير ذلك، وتطوع الخبراء لاستعراض الأرقام والنظريات التي تدعم وجهة نظرهم كما بادر البعض إلى تصميم برامج تدرب الشباب على الانتماء. وجاءت ثورة 25 يناير لتكتسح ذلك الوهم ولنستطيع بنظرة عابرة إلى شباب تلك الثورة أن نكتشف أن الانتماء للوطن وللشأن العام أمر عابر للطبقات الاجتماعي يستوي فيه الشرفاء من الأغنياء والفقراء.
الوهم الثالث:
طالما حذرونا وحذرنا أنفسنا من عدوانية شرسة وحقد مدمر يكنه الفقراء وسكان العشوائيات للمستورين فضلا عن الأغنياء، وأن الشرطة هي التي تحول بين هؤلاء وبين التهامنا وإحراق الوطن. ومع تدافع أحداث ثورة يناير وغياب الشرطة حدثت عدة وقائع ترويع وبلطجة لم يتم تبين أبعادها بعد، وحدثت أيضا بعض وقائع نهب وسرقة، ولكن العديد من أبناء تلك العشوائيات قاموا بجمع الكثير من المسروقات وإعادتها، وسقطت في خضم ثورة 25 يناير محاولات دق الأسافين بين أبناء الوطن ومحاولة صياغة النظريات العلمية التي تؤكد ذلك.
الوهم الرابع:
لقد اهتزت على أيدي ثوار 25 يناير محاولات شيطنة صورة "الإخوان المسلمون"، وتصوير الأمر كما لو كانت جماعة الإخوان المسلمين منتشرة بين رجال الجيش والشرطة وأنه ما أن تعم الفوضى إلا ونشهد دبابة تتجه إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون ونسمع البيان الأول من مرشد الجماعة. وقد شهدت البلاد فوضى لم نشهدها من قبل بل وتم تحطيم بوابات السجون وانطلق منها فيمن انطلقوا العديد من سجناء ومعتقلي الإخوان، ولم يحدث شيء من ذلك المتوقع رغم حقيقة أن أية جماعة تجد في نفسها القدرة على الاستيلاء على السلطة لن تتردد لحظة واحدة. ولعل شباب ثورة 25 يناير قد اكتشفوا خلال تفاعلهم المباشر مع شباب الإخوان المسلمين أنهم يتعاملون مع بشر مثلهم ليسوا ملائكة ولا شياطين لقد أتاح لنا ثوار 25 يناير الفرصة لإعادة اكتشاف حقيقة أنه لا توجد قوة منفردة تستطيع أن تستأثر بحكم مصر. وأنه ليس اكتشافا أن يلتقي أطراف لكل منهم أجندته، وأن الأجندة المختلفة ليست تهمة أو وصمة.
الوهم الخامس:
لقد تكرر حديث مثقفينا عن عجز المصريين عن العمل الجماعي، وعجزهم عن الاعتماد على أنفسهم في إدارة شئونهم؛ وجاءت ثورة 25 يناير لتكشف لنا ليس فحسب قدرة شباب الثورة على العمل الجماعي؛ بل قدرة المصريين جميعا على ذلك. لقد قام المصريون في غياب الشرطة بالتعاون من أجل حماية أنفسهم بتشكيل وحدات مدنية لحماية بيوتهم وأسرهم وممتلكاتهم فضلا عن تنظيم المرور. صحيح أن خبراتهم "الفنية" في هذه الأمور محدودة؛؛ ولكنهم مارسوا عملهم التطوعي بطهارة قابلها الجميع باحترام ودون تذمر ودون أن يحتاج أحد لرفع شعار "ألا تعرف من أنا؟" ودون أن يخطر في بال أحد أن يقدم رشوة لاستثنائه. لقد قدم هؤلاء الشباب نواة لبديل نظيف للإدارةة المحلية.
الوهم السادس:
لقد ترتب على انتشار وتغلغل تلك الأوهام أن سادنا تصور أن أبرز خصائصنا تتمثل في العجز وقلة الحيلة والخوف واليأس من التغيير، وأننا حتى حين نطالب بالتغيير نجبن عن دفع ثمنه، وأخيرا جاءت ثورة شباب 25 يناير لتكون بداية لسقوط ذلك الوهم. لقد أسقطت تلك الثورة حاجز الخوف ورأت عيون المصريين شبابهم يمارسون في الشوارع استعدادهم لدفع ثمن التغيير مهما كان باهظا.
إن الفارق بين الوهم الجماعي والحقيقة الاجتماعية أن الوهم الجماعي وهم مصنوع لا يمثل الجوهر ولا يعبر عنه بل تتم صناعته قصدا بالحديد والنار أحيانا وعبر أجهزة تزييف الوعي بشكل مستمر. ولكن كما أنه لا توجد جريمة مكتملة تماما فقد تمكنت طليعة الجيل الجديد من الإفلات من تلك الحلقة الجهنمية المحكمة ولعلهم يروون في يوم ما كيف نجحوا في الإفلات وفي تشكيل وعي جديد.
خلاصة القول: لقد كانت تلك الأوهام تشكل جوهر تصور المصريين لأنفسهم، وبسقوطها سوف تتشكل ملامح وعي مصري جديد مهما كانت طبيعة ما تسفر عنه الأحداث الجارية.
5 فبراير 2011
واقرأ أيضاً: