ساخن من مصر أيام الغضب الاثنين2
اليوم كان اليوم الذي انتظرته على أحر من الجمر منذ صباح الجمعة 28 يناير 2011... اليوم بفضل الله رزقت بما أكمل المطلوب مني للجامعة الألمانية..... اتصلت بالسائق وتحركت من العيادة في الثالثة والنصف بعد العصر، وكنت قد سمعت هتافات في الزقازيق في نفس الوقت ولكن لم أتبين كلماتها جيدا.... سألت قالوا أن الكنيسة الكبيرة انطلقت من أمامها مظاهرة مطالبين بمحاسبة مبارك وحبيب العادلي بسبب التورط في تفجير الإسكندرية...... قلت تمنيت لو أكون معهم وأتمنى أن يشاركهم المسلمون تلك المظاهرة، في حوالي الرابعة والربع كنت وزوجتي والسائق على بداية طريق القاهرة الصحرواي.
الأخبار اليوم حتى الآن ليست متجمعة لدي لأني ضغطت مواعيد المرضى لأستطيع السفر قبل الظلام.... فلم أتابع الأحداث واكتفيت بسماع بعض أقوال من الجزيرة واختلاس النظر إلى شاشتها على الكومبيوتر بجواري... ولكن بقاءهم معظم الوقت أو طوله تقريبا في ميدان التحرير كان يشعرني بأن الأمور تتقلص... في نفس الوقت الذي أنا فيه مقتنع بأن الأحداث لابد اليوم ستتسمع لأن الثلاثاء يوم مظاهرات مليونية، ثم أن الفضائح المتتالية التي تثبت فساد أركان متعددة للنظام تتوالى وكل هذا أعرف أنه سيزيد المصريين إصرارا على مواصلة الاحتجاج فضلا عن جهود عديد من المواقع على الإنترنت وجهود ناشطي الفيسبوك..... وأحمد الله الذي مكننا عبر الفيسبوك من إعادة كثيرين ممن كان قد فتنهم الخطاب المسموم والفيروسات الفكرية المتعددة التي أطلقها النظام وفندناها أنا والدكتور المهدي على مجانين..... كل هذا وكثير غيره على الفيسبوك ومواقع أخرى... كل هذا كان يجعلني متأكدا من أن رقعة التظاهر ستتسع جدا اليوم وربما بدءًا من اليوم.
في الطريق رأيت السائق على غير عادته متحمسا جدا للتظاهر ويقول يعني صحيح اليوم سنعمل عمرة يا دكتور؟ سنروح التحرير؟ قلت له إن شاء الله سنفعل.... فقال يوم الجمعة سيكون هناك طحن أناس كثيرون سيخرجون للتظاهر كل جيراني وكل من معي من الموظفين في مديرية الزراعة، ومن المؤكد أنه سيحصل في كل مصر.... سألته لماذا يا عبد المنعم ما الذي تغير؟ فقال الناس أفاقوا يا دكتور... الناس اكتشفوا أن الأولاد الموجودين في التحرير استطاعوا أن يحصلوا لهم على ما لم يكونوا يحلمون به من حقوق، الناس يشعرون أن هؤلاء الرجال في التحرير يحرسون لنا مكاسبنا فكيف لا ندعمهم؟ قلت له يا منعم أناس كثيرون يتفرجون على قنوات التليفزيون المصري ولابد أنهم يحسبون الأمر انتهى فقال لي لا يا دكتور الناس الذين ضحك عليهم أفاقوا بسرعة ولا أحد يصدق التليفزيون المصري..... ثم أن المسألة أصبح فيها دم... دم كثير يا دكتور.
ما كدنا نصل إلى مدينة السلام وصارت مساكن الزلزال على يميننا حتى بدا وكأننا في سرى الحج في السبعينات من القرن الماضي أي أنك تجد سيارتك خلف طابور طويل لا تصل عيناك أوله مهما فعلت... والسيارات تتحرك ببطء شديد كل دقيقة نصف متر مثلا.... السيارات تمشي في الاتجاه المعاكس لتفادي جزء من الطابور المشلول ثم تعود تلك السيارات لتلتقي بالطابور من الأمام مما يؤدي إلى بطء أكثر في النهاية..... المشكلة أنك في كثير من الأحيان لا تفهم سببا لهذه الاختناقات المرورية اللهم إلا أن بعض أهم الطرق مغلق لأسباب غير مفهومة، وفي بعض الأحيان يكون التأخير والتكدس بسبب أن هناك نقاط تفتيش.... أحيانا من الجيش وأحيانا من اللجان الشعبية.... ثلاث ساعات ونصف أي حوالي ثلاثة أضعاف المدة المعتادة.... ولدهشتي قال السائق حظكما حلو يا دكتور بالأمس كانت أبطأ من هذا بكثير قلت له لماذا فكان رده والله ما عرفت!
الآن عرفت الأخبار في كل أنحاء مصر فعلا خرجت التظاهرات وامتدت أفقيا ورأسيا وخرجت قطاعات لم تخرج من قبل... مثلا أساتذة جامعة القاهرة.... مئات يتظاهرون من العاملين في مبنى الإذاعة التليفزيون المصري وكثيرون منهم يقدمون استقالتهم اعتراضا على التغطية المشينة لأحداث مصر وتشويه صورة المتظاهرين.... كثيرون من نقابة الصحفيين ونقابة المحامين.... وتتسع إذن تتسع الثورة.
ثلاثة من الموسوسين بالنظافة والمعتصمين بالتحرير اتصلوا بي ثالثهم كان اليوم وكانت المكالمات ليشكروني على ما كنت قلته لهم ولم ينجحوا من قبل في تنفيذه فكان فترة بقاء أحدهم في الحمام تتراوح بين نصف ساعة وساعة ونصف..... الآن يدخلون مرحاضا يستخدمه آلاف من المعتصمين ولا تزيد مدة بقاء الواحد منهم على 5 دقائق..... ويقولون أن ما عانوه من الضيق والتوتر بسبب عدم إتمام أفعالهم القهرية أقل بكثير مما كنت أجهزهم له وأقل من كل ما جربوه في محاولاتهم السابقة.... بركات الثورة... قلت نعم وأمر جدير بالدراسة.
أوقفنا السيارة قبل ميدان طلعت حرب بحوالي 200 متر وارتجلنا إلى حد ميدان التحرير عند الدخول لم نرَ ضباطا لا من الجيش ولا من الشرطة وإنما مجموعة من الأولاد والبنات يطلبون منك تحقيق الشخصية ويفتشونك للتأكد من أنك لا تحمل آلة حادة أو سلاحا ويقول لك آسف –بصراحة لا أعرف إن كانت آسف قيلت لي باعتباري أستاذ بكلية الطب كما هو مدون في بطاقة الرقم القومي-.... المهم أنهم مؤدبون كلهم ووجوههم تفيض بالأمل والإرهاق معا.... الله معكم قلت لهم وقلت في نفسي دعاء من القلب وعيناي تدمعان.
أخيرا دخلت الميدان وأنا تعتور بداخلي مشاعر أعجز عن وصفها... ولا شيء أستطيع التعبير عنها من خلاله أكثر من أن أقول أنني كنت ممتلئا بالدموع وكنت في نفس الوقت أشعر بانشراح صدري وبأنني أتنفس هواء لم أتنفسه في مصر من قبل، وأسمع كلمات لم أسمعها من قبل... وكان من الواضح أن الهتافات تتزايد يوميا فتضاف هتافات وشعارات جديدة إلى الهتافات القديمة التي يحوَّر بعضها ليتناسب مع ردود فعل السلطة ممثلة في رموز النظام التي ما تزال تحاول إجهاض الثورة.
الساعة كانت حوالي الثامنة مساء ولم تكن الإضاءة جيدة بشكل يسمح بأخذ صور واضح المعالم......... كل أطياف المجتمع المصري كانت ممثلة في شكل بدا لا حماسيا فقط وإنما احتفاليا أيضًا......... أكثر من نقاط تجمع تجد فيها هنا من يخطب وهناك من يهتف وتردد خلفه الجماهير وهنا من ينشد الشعر وهناك من يغني وهنا من يعزف على آلة موسيقية ويغني الملتفون حوله أغنيات حماسية.... ولا أحد يقل المتجمعون حوله عن آلاف من البشر، وبينما كانت الهتافات تختلف في محتواها وقوة ترددها في الميدان فإن الهتاف الوحيد الذي كان يهز أرجاء الميدان ويجذب الجميع لترديده كان الهتاف الأول لثورة الغضب المصرية: الشعب يريد إسقاط الرئيس وكذلك ارحل.... ارحل يا مبارك.... وحين يكون المطلب عينيا إلى هذا الحد فإن تنفيذه حرفيا ولا شيء آخر يمكن أن يرضي المتظاهرين... فحين يكون المطب الذي يحويه الهتاف مجردا مثل العدالة أو الحرية فإن من السهل أن تخدع المتظاهرين ببعض التغيير في القوانين أو اللوائح... لكن عندما يكون المطلب مباشرا وعينيا مثل رحيل فلان أو إسقاطه أو محاكمته فإنك لا تستطيع أبدا أن تثني المتظاهرين عنه ولا أن تضحك عليهم.... أي غضب من الله ذلك الذي حل بالرجل العجوز وقد تخطى الثمانين ثم هو ما يزال يتفاخر بالدكتوراه في العند التي يقول أنه يحملها.
يتبع : .............. ساخن من مصر أيام الغضب: الأربعاء3
واقرأ أيضاً:
حكاوي القهاوي/ مجموعة نفسانيون من أجل الثورة المصرية