الرئيس الموظف هو أحد أنماط الرئاسة وهو يقوم بدور المدير وليس بدور القائد أو الزعيم، وهو قد وصل إلى هذه المكانة بغير ترتيب أو سعي وإنما لعبت الظروف دورا هاما في وصوله، فلم تكن طموحاته تصل إلى ذلك ولم يكن هو معدا لنفسه للقيام بهذا الدور فلم يكن له في حياته أي اهتمام بالسياسة بل كان يمقتها ويعتبرها من قبيل اللف والدوران والمراوغات، ومع هذا يقبل القيام به كأي موظف يقبل التكليف بعمل في نطاق وظيفته، ولذلك يبدأ متواضعا بعيدا عن أبهة الرياسة والحكم، ويقبل بالأوضاع القائمة ويسعى لثباتها وترسيخها مستفيدا في ذلك من اللوائح والقوانين التي وضعها الأسلاف، إذ ليست لديه رؤى أو أهدافا أو استراتيجيات جديدة، ولذلك يحاول طول الوقت التركيز على الهياكل الوظيفية والإجراءات الشكلية، ويهتم اهتماما وسواسيا ملحا بالإجراءات والضوابط واللوائح التي تضمن الاستقرار والثبات والذي يصل إلى حالة الجمود.
وبما أنه موظف فهو يحافظ على "أكل عيشه" لذلك لا يميل إلى المغامرات أو المخاطرات أو الهزات، فالمهم عنده أن تمر الأيام دون مشكلات، وكل حركة لديه مشكلة تهدد الاستقرار وتعكر الصفو العام، لذلك لا يطيق المطالبون بالحركة والتغيير ويعتبرهم أعداء للاستقرار وأعداء للوطن وأعداء له هو شخصيا لأنهم يكدرون صفوه واستقراره واستمراره، وشعاره دائما "استقرار الاستمرار واستمرار الاستقرار".
والموظف لا يملك رؤى إستراتيجية أو تاريخية أو ثقافية أو حضارية، بل إن هذه الكلمات تضايقه وتؤرقه ويعتبرها تقعرا وتفلسفا من جانب قلة غير واقعية يتحدثون حديثا عاطفيا غير موضوعي، أما هو فلا يتحدث إلا عن الواقع اليومي الذي يعيشه بين مرؤوسيه للحفاظ على لقمة عيشه وعيشهم، فهو يسعى إلى تثبيت الأمور بكل الوسائل ويحاول أن يقود السفينة دون أي اهتزازات، ولذلك يفضل القيادة بجانب الشاطئ دائما. وهو على الرغم من ادعاءاته بالثبات وعدم الخوف وعدم التأثر بالأحداث وطمأنينته السطحية لصواب قراراته وارتياحه المبالغ فيه لحالة الاستقرار السائدة واستهانته بكل ما يحيط به من تحركات وأخطار، إلا أن هذا كله يعكس حالة عميقة من الخوف الداخلي وانعدام الأمان، تلك الحالة التي تدفعه بلا وعي إلى التمسك بالوضع القائم والتمسك بالثبات الجامد والمتجمد لأن الحركة تحمل تهديدات لا يحتملها والجديد بالنسبة له يحمل رعبا لا يطيقه.
والموظف يسلك سلوكا تقليديا عسكريا فيطلب الطاعة المطلقة من مرؤوسيه في حين يخضع هو لمن فوقه. وطموحات الموظف ليست كبيرة فهو يرضى دائما بالأدنى وليست له رؤى بعيدة المدى أو سقفا عاليا يصبو إليه، وليس لديه حلم ولا يملك أصلا القدرة على الحلم بل هو يعيش الواقع اليومي بتفاصيله القريبة، أي أنه يعيش في مستوى الاحتياجات البيولوجية التي وصفها ماسلو وليس لديه اهتماما بالطبقات الأعلى من الاحتياجات في هرم ماسلو الشهير مثل الحب والتقدير الاجتماعي وتحقيق الذات وغيرها، وبالتالي ليس لديه اهتمام بالنواحي الثقافية أو الجمالية أو الحضارية، ويشعر بالمقت تجاه المثقفين والمفكرين والفنانين، ويعتبرهم أقرب إلى مهرجي السيرك، وينظر إليهم على أنهم واهمون حالمون غير واقعيين لأنهم لا يرون الحقيقة وتستغرقهم الأوهام والأحلام الفارغة؛
أما هو فيهتم باللحظة الحاضرة ويسعى لتحسين أحوال الناس المعيشية ويحقق (أو يريد أن يحقق نتائج ملموسة على أرض الواقع)، وهو يتجنب الدخول في المخاطرات التي يدعوه معارضوه إليها لأنه يدرك مالا يدركوه من تأثير ذلك على تابعيه، فهو يخطط على المستوى التكتيكي القريب من حياة الناس اليومية واحتياجاتهم القريبة قصيرة الأمد، ويركز على النتائج الملموسة، وهو يسترشد في قراراته بالأرقام والمعلومات والحسابات ولا يخرج عن التعاليم واللوائح والتعليمات، ويختار تابعيه على أساس الكفاءة في التنفيذ وثقته في ولائهم ولا يتوقع منهم تخطيطا أو إبداعا فهو يمقت الإبداع ولا يريد من سكرتاريته إلا الإتباع وتنفيذ الأوامر بدقة؛
ويستخدم معايير الثواب والعقاب لضبط مرؤوسيه ولتحقيق أهدافه، وهو لا ينظر إليهم باعتبارهم بشرا أكفاء لهم القدرة على الإبداع والإضافة والحذف والتغيير وأنهم موارد وطاقات بشرية يمكن تنميتها وتطويرها ولكن ينظر إليهم على أنهم مجرد أشياء لتنفيذ برامج أو احتياجات أو إجراءات معينة، ولذلك لا يهتم بأشخاصهم أو تاريخهم أو مشاعرهم أو مشكلاتهم ولا يرتبط بأي منهم بصداقة أو علاقة إنسانية بل ينساهم فور انتهائهم من أداء مهامهم، فهم في نظره غير جديرين بالصداقة أو العلاقة الإنسانية، ولذلك تجد علاقاته سطحية ووقتية وفاترة، ولا تجد له تاريخا من البشر، وهو لا يتحدث عن تاريخه الشخصي كحياة إنسانية حافلة بالصداقات والعلاقات والمؤثرات الإنسانية، وإنما إذا تحدث عن تاريخه فإنه يتحدث عنه من خلال المهام التي أتم إنجازها طبقا للأوامر والتعليمات.
والرئيس الموظف يفتقد الكاريزما والحضور، وحيثما وجدته تراه مصطنعا على نحو كبير، وتفتقد فيه المشاعر الحقيقية والنبض الحيوي الإنساني، وكأن بينك وبينه طبقات من الزجاج السميك.
والموظف يكره الأحلام والأمنيات ويحتقرها ويحتقر من يتمسك بها ويعتبره ساذجا غريرا غافلا لذلك فهو يسعى لتكريس الأمر الواقع والقبول به، وهو إذ يفعل ذلك يثبط الهمم باسم التعقل ويقيد الحركة باسم التروي ويخنق الأفكار ويقتل الأحلام باسم الموضوعية، ويضحي بالإرادة والكرامة للأقوى باسم الواقعية والحفاظ على الحياة وأكل العيش.
وقد يتسم الموظف ببعض السمات الوسواسية فيصبح مدققا وعنيدا لا يقبل رأيا آخر ولا يتنازل عن شيء مهما صغر ويتمسك بالشكل دون الجوهر، ويعتقد أن الآخرين ليسوا جديرين بالثقة لأنهم لايقومون بالتنفيذ كما يجب لذلك نراه حريصا على عمل كل شيء بنفسه ومتابعة كل شيء بنفسه حتى لو توقفت الأمور وتعطلت مصالح الناس، وعلى الرغم من عدم تعبيره عن مشاعره العدوانية بشكل صريح إلا أن عناده يكشف عن عدوانيته الكامنة بداخله.
وهو لا يميل إلى التميز أو التجديد بل يحب أن تسير الأمور في مسارات عادية، فهو شخصية عادية، بل ومفرط في عاديته. وأصعب لحظة في حياة الموظف هي خروجه للمعاش، لذلك يحاول بكل الطرق أن يستمر في منصبه لأطول فترة ممكنة وربما للأبد لأن حياته بدون الوظيفة لا تساوي شيئا ولا تطاق، فليس لديه أية اهتمامات أو هوايات أو أي شيء له معنى خارج إطار الوظيفة الرسمية.
واقرأ أيضا:
النقطة الحرجة في العنف / انتحار البراءة / الخطيئتان الأعظم في حياة المصريين / سلوك القذافي... هل هو جريمة أم مرض؟