- مسكين جارنا أبو فتحي رددها أبو أنور على مسامع زوجته للمرة الألف ربما!
وبعد أن زفر زفيرًا حارًا، أطرق وقال: ما أتعس حظه مع زوجته! قد أذاقته الويلات...، لا تكف عن الصراخ صباح مساء، ولا يعجبها العجب...، تشعره أنه أتفه زوج في الدنيا، وأفشل رجل رأته في حياتها، رغم شهاداته العالية وعمله المرموق...، من كان بلا حظ فلا يتعب نفسه في شيء ولا يشقيها يا أم أنور!!
- فرج الله عنه -يا أبا أنور- في القريب العاجل...، ليتنا نقدر على مساعدته...
- آهٍ...، لو رأيته اليوم وهو ينفِّس عن آلامه بسخرية مضحكة مبكية، ويخرج لي بطانة جيوبه كلها، ما كان في السترة أو في البنطال، ويقول لي: انظر يا أبا أنور.. انظر! ما تركَتْ لي في جيوبي ولا بقّة!!
-حسبنا الله ونعم الوكيل، أرجو أن يكون العشاء أعجبَك اليوم...
-سلِمَت يداكِ...عليّ أن أذهب باكرًا إلى النوم فأمامي عمل شاق...
زقزقت العصافير في صباح اليوم التالي، وتمطت بحرية قبل أن تأتي الغربان لتغزو أعشاشها...، وانتشى أبو أنور بأصواتها، واعتراه نشاط عجبت منه زوجته، لكنها استبشرت، فأخيرًا رأت الابتسامة على وجهه في الصباح...، وسألت المولى أن يستمر هذا إلى المساء، وألا تنكده ملحمة أبي فتحي المعهودة مع حرمه المصون!
ولم تكن أم أنور تدري أنها من أولياء الله المخفيين، وأن دعاءها سيستجاب بهذه السرعة!!
ففي الظهيرة وعلى غير عادته أخذ زوجها يدق باب البيت بصخب له ألحان...
- ما لزوجي اليوم؟ أيظنني ركبت طبلًا بدل الباب في غيابه؟!
.. وفَتحَتِ الباب: خيرًا يا أبا الأنوار! جعلتني أرقص من هذا الكونشيرتو الذي عزفته على باب الدار!!
- أوسعي لي الطريق واتركيني أرقص على سيمفونية سعادتي! اليوم يا أم العيال... اليوم...
- أوه...كف عن التهريج وأخبرني ما الأمر، وإلا بقيت بلا عشاء هذه الليلة!
- بلا عشاء..، بلا غداء..، لا يهم! لقد أشبعتني السعادة وزادت في وزني عشرة كيلويات، فافرضي قانون الريجيم ما شئت!! تزوج أبو فتحي يا أم أنور... تزوج أبو فتحي...، إيه يا جاري العزيز.. لو فعلتها من زمااااااان!! كنت أرحت نفسك من الهم، وشفيت غليلك برؤية أم المشاكل وهي تتميز غيظًا...
لو رأيتِ وجهه اليوم يا أم أنور...، لقد كان يفيض بشرًا وسرورًا جعل كل من حوله يشعر بالبهجة...، الرجل يجب أن يبقى رجلًا يا أم أنور...، لا أدري كيف رضي الهوان والذل كل هذا الوقت مع هذه المتسلطة الظالمة؟! جاء يوم سعدك يا أبا فتحي...، أليس كذلك يا أم النور؟
...أين أنت؟ ألا تجيبينني؟
- أنا هنا أقف فوق رأسك! ألا تراني؟!
رفع المسكين رأسه ليرى في عينيها تعبيرات لا تسرّ الناظرين...، تجاهل الأمر وأطلق العنان لمشاعره السعيدة...، وكان يردد في نفسه: نعم... نحن رجال، وسنبقى رجالًا!
ولم يكن رجلنا أبو أنور يدري ما ينتظره...
فتح عينيه هذا الصباح وبدأ بنفس عمييي ق ق ق!!! ما هذا الذي على الوسادة؟
مقلاة حديدية...، شوبك...، شوكة عملاقة....، وااااو وسكين اللحم!!
- ههه... رعاك الله يا أم أنور...، أكنت تمشين في النوم، وتهلوسين بالطبخ طوال الليل؟! أعرفك طباخة ماهرة...، أدامك الله للعيال وأبيهم...، لكن هذه أول مرة أكتشف روح الدعابة لديك!
لم تكن حرمه المصون تسمع شيئًا من هذا...، فقد أصمها بخار الغضب الذي يخرج من أذنيها...
- يا صباح الخير... يا صباح النور... ما ذا دهاك يا امرأة؟!
وكما يفعل ضباط الجيش صرخت: أبا أنور..، افتح عينيك جيدًا وانظر إليّ...
- ههه... ها أنا أراك ما شاء الله رائعة ككل يوم...، وخاصة مع هذا القبقاب الذي حملته بيدك...، مكانه قدمك يا أم أنور... أنسيت؟! سامحك الله...
- ليس هذا وقت المزاح، اسمع يا أبا العضلات والشوارب... لا دخل لك بأخبار أبي فتحي بعد الآن...، والويل كل الويل إن سمعتُ اسمه على لسانك.. أفهمت؟؟
- حاضر يا روح أبي الأنوار...، يا أحلى زهرة في الدار...، يا مَن جمالها فاق الأقمار...، وهل لي ملاذ غيرك؟ أنا رهن إشارتك وتحت أمرك!! يا شماتتي بك يا أبا الفتاتيح...، رميت درة كانت تزين جبينك، واستبدلتها بحجر أصم، لا بريق فيه ولا جمال؟!! أعاذني الله منك ومن أفعالك...، والحمد لله على نعمة أم أنور...
أنا؟ أنا أفعلها يا أم أنور؟ هداك الله! بل المحيا محياكِ والممات مماتكِ!
- رضي الله عنك...، أعرفك شهمًا عاقلًا...، لكن خشيت أن يلعب الفأر في جيبك...
- بدأتُ أعتب عليكِ يا روحي... وهل تظنين أني سأترك جنتك الوارفة، وحنانك الذي تغدقينه عليّ، والسَّكِينة والأمان اللذين تشعرينني بهما على مدار الساعة؟!
- تماااااام، لا خوف عليك إذن...، كنت أخشى عليك من زوجة أخرى تقض مضجعك يا حبيبي...، فلا تسِئ بي الظن...، إنما هي مصلحتك أولًا وآخرًا...
- حياكِ الله..، حياكِ الله..، لولاك لضعت يا أم العيال...، والآن...هل تفسحين لي المجال؟ تأخر الوقت والعمل يناديني لأحضر لك المال...
- لا بأس...، منحتك تأشيرة الخروج اليوم نظرًا لحسن سلوكك...
قفز المسكين خارج المنزل من غير طعام...، وتنهد براحته... يا سلااام يمكنني الآن أن أفرح براحتي، ابتعد عن البيت... ثم تلفت يمنة ويسرة...، أخرج جواله من جيبه بحذر...، السلام عليكم يا أبا فتحي... هنأكَ الله.. عقبى لكل زوج مظلوم... فرحت لفرحك والله، أخزى الله سليطة اللسان، وأماتها كمدًا وغيرة وحزنًا!! السلام عليكم
رررررررررن...
خيرًا! إنها أم أنور! فلنرَ ما تريد
- هففففففف... أبا أنور...، مع من كنت تتكلم الآن؟؟؟؟؟
- عجيب! وكيف رأيتني؟
- جوجل إيرث يا روحي...، التفت وراءك!
- يا حبيبي!! وما الذي أتي بأنور إلى هنا؟!
- اسمع وافهم يا هذا...، أنور سيتبعك خارج البيت...، ونور ستراقب أنفاسك داخل البيت...، وقد وكَّلت بك عفريتًا أحضرته من دجال الحيّ، يراقب أفكارك، وأحلامك...، وإياك إياك أن تحلم بما يجرح كرامتي، وإلا فالكوابيس مصيرك ومآلك... فهمت؟؟
- ومثلي لا يفهم؟! سامحك الله..، قد عجلت عليّ... إنما كنت أكلم البقال، ألا تريدين بعض الطماطم اليوم لتقذفيها عليّ عندما أعود؟ سأحضرها لك بيدي هاتين لتضربيني بها، وضرب الحبيب زبيب!
-رضي الله عنكَ...، ما عهدتكَ إلا محبًا وفيًا... سلام يا روحي...
هز المسكين رأسه بعد أن دس هاتفه في جيبه، وضرب كفًا بكف...، حتى الأحلام؟! حتى الأحلام يا تعيس الحظ؟! عشتِ يا أم أنواري واستأجرتِ العفاريت!
ماذا دهاها؟!! وهل يعقل أن أفعلها؟! كل ما في الأمر يا رفيقة الدهر أني فرحت لفرح جاري بعد أن بكيت كثيرًا معه!! يا لغيرة النساء! إنها نار حامية...
ههه... أصبحت تكلم نفسك في الشارع يا أبا الأنوار كالمجانين...، تابع مسيرك يا مجنون...، وامض إلى عملك لتوفر ثمن باقة الطماطم..، تقدمها يانعة يفوح عبقها إلى نور عينيك...، وإياك إياك أن ترى وجه أبا الفتوح...
أخرج المِرآة من جيبه، ونظر إلى وجهه، وقطب جبينه، وصرخ كالضباط: أفهمت؟؟!
واقرأ أيضاً
ذاتٌ عَـلـيَّــه / مَا لـَمْ يُـغرغِـر / الأمل الضائع / مِنْ وَحْيِ المُنَاقَشَة