كان عائدا من عمله، السيجارة تكاد تحرق أصابعه، والشمس تلهب قفاه، والعرق يتصبب من جبينه، والناس تطل من النوافذ ترقبه وتشير إليه بالأصابع، والبعض يمصمص شفاهه، ويشيح بوجهه بعيدا عنه، لكنه لم يكن عابئا بهذا كله، بل الحقيقة أنه لم يكن يشعر بشيء مما يدور حوله، فقد كان هائما كعادته في دواماته الفكرية، يقلب الأمور يمينا ويسارا، ويحدق في أتفه العادات، والنواميس محاولا إيجاد تفسيرات عقلية لها، وفجأة اصطدم بحجر فسقط على وجهه، والتفت مجموعة من الفضوليين حوله.... ولكن أحدا لم يمد له يد المساعدة، فنهض دون أن يعيرهم انتباها، ولم يهتم حتى بفض الغبار عن وجهه، ومضى في طريقه غير مبال بمن حوله، .... فانفصلوا وهم يتلمزون ويتغامزون ويضربون كفا بكف
*****
دلف إلى منزله واستقبلته زوجته كعادتها بوابل من التهكمات والسخرية، لم ينبس ببنت شفة ومضى إلى غرفة مكتبه حيث غرق في محيط أوراقه وكتبه، لم يدر بالوقت يمر سريعا حتى اقتحمت زوجته محرابه تخبره أن الوقت قد حان للنوم، نظر إلى ساعته في دهشة وفرك عينيه وتمتم: فعلا إنني لم أشعر بمرور الوقت. استلقى على السرير، وأشعل سيجارة وهام في تفكيره ثانية، مدت زوجته يدها تداعب صدره لكنه رفع يدها في ضجر وصاح: اعذريني إنني مشغول الآن، فنفخت غلها في وجهه وصاحت ضائقة: ما هذا ؟ !!! ألا تتعب ليل نهار... ارحم نفسك يا رجل... ولما لم تجد بدا منه غطت في نوم عميق تاركة إياه وحيدا يضرب أخماسا في أسداس.
*****
وفجأة هوت طرقات شديدة على الباب.. استيقظت زوجته منزعجة وجدته لم يزل ساهرا مسهدا، صاحت فيه: ألا تسمع طرقات الباب...أفاق من غيبوبته قليلا وتمتم: أي باب أظنها دقات الساعة تعلن منتصف الليل... تعالت الطرقات... صاحت في بل إنه الباب ثم ضربت صدرها فجأة وقالت: أمي.. إنها مريضة من يومين... يا ويلتي أترى جرى لها مكروه.؟!! نهضت على عجل تفتح الباب حتى وجدت فوهات البنادق مصوبة نحو رأسها، تسمرت في مكانها، اقتحم الجنود الشقة دخلوا غرفة النوم، كان صاحبنا يرتدي روبا حتى يرى ماذا حدث، سقط الروب من يده وقد رأى فوهات البنادق مصوبة إلى رأسه، فنظر إلى حاملي البنادق نظرة متسائلة، جاءه الرد في صوت أجش أمر : تقدم أمامي .. مد يده يلتقط الروب، قاطعه الصوت الآمر، قلت تقدم أمامي.
*****
في الشارع :- نصب سرادق المحكمة كان الحكم على رأس السرادق، وممثل الادعاء على الميسرة، وصاحبنا في قفصه الحديدي على الميمنة، والجماهير بوجوههم المعروفة له جالسون يتابعون في صمت ووجل وقف ممثل الادعاء ... كان رجلا وسيما أنيقا... انطلق في مرافعته أرغى وأزيد، وأخذ يكيل آلاف الشتائم وأفظع السباب للمتهم المسكين، وأعين الناس مذبذبة ما بين ممثل الادعاء والمتهم، انتهى من مرافعته مطالبا بأقصى عقوبة للمتهم،
*****
وقف الدفاع:- تساءل ما هي التهمة الموجهة لموكلي بالضبط؟ قاطعه ممثل الادعاء صائحا: لا تحاول التأثير على المحكمة إنني أرفض هذا الأسلوب الملتوي... صاح الحكم مؤكدا: أدخل في الموضوع مباشرة يا أستاذ، وجلس الدفاع منكسرا آسفا حزينا، وعلا صوت الحكم، أمرت المحكمة بنفي المتهم من مدينتنا الهادئة الوديعة،.. ضجت القاعة بالتصفيق دهش صاحبنا، مما يحدث وتساءل: لماذا يصفق الناس ؟ !! أتراهم يصفقون فعلا إعجابا !!! أم أنهم يضربون كفا بكف دهشة واستنكارا ؟!!! نظر السجان إليه في إشفاق ثم جذبه من قفاه في شك وحذر..
*****
خلت القاعة إلا من ممثل الادعاء الذي وقف يلملم أوراقه في عزة وخيلاء... تقدمت نحوه فتاة كانت تجلس في الصف الأخير، كانت جميلة رقيقة ترتدي فستانا قصيرا عاري الصدر اقتربت منه.. نظر إليها من أخمص قدمها إلى شعر رأسها.. قالت له في صوت رقيق: أنا لم أفهم شيئا... تعلقت عيناه بصدرها العاري وسال لعابه وقال: ما الذي لم تفهميه يا سيدتي ؟! قالت بتعجب: القضية ؟! جحظت عيناه تلتهمان نهديها.. بلع ريقه وقال... مالها.؟!! صاحت: ما هي.. التهمة ؟!! لم يستطع أن يصبر طوق خصرها وقال: إنه يفكر !!!
واقرأ أيضًا:
كائنات خالية من الضوء / اشرب واحمد الله / الريح والورد / ذكريات ومشاهد من الحرب / قالت: هو الوداع