اشتقت له.. ربما تكون الريح القوية التي جادلتني وأنا أُعلق الملابس المبتلة قد دفعتني لرؤيته. اشتقت له.. مع أنه لا يُفارقني إلا كما تُفارقني نفسي وأنا منشغلة بصغاري.. ملأت الريح الملابس فرأيته.. هذا البنطال يشبه بنطاله، وذاك المعطف كمعطفه، وذاك الفستان كانت ترتديه صغيرتي وهو يُلوح بها بين ذراعيّة.. "ما أجمل صغيرتكِ يا أُختي".. مازلت أسمعه يقولها ومازلت أبكيه..
***
أُحاول منذ مدة ترك البكاء، غير أن الريح تدفعني من جديد نحوه.. يداي محمرة يبدو أنها باردة ويُقال درجة الحرارة تقترب من الصفر؛ فهل يداه محمرة أيضا؟؟ هل يشعر بالبرد؟؟ هل يُدفئُ الطين الشهداء؟؟ ها هو يركض خلف صغاري باسماً مشعاً بالدفء والسعادة.. ابتلت ملابسي من دموع غسيلي، وابتل وجهي من ذكراه..
***
يبدو أني وقفت طويلا في الريح.. حتى أفقت على صوت صغيرتي الأحب إلى قلبه، قالت: "خالو .. خالو ماما.. خالو" .. كلما رأتني صامتة أو باكية سألتني عنه، وعرِفت أني أبكيه، لم تشهدني بهذا الحزن إلا منذ رحل، إنها صغيرة، هذا الشهيد الأول الذي تذكره، قالت مرة أخرى: "خالو ماما؟" قلت: نعم، تعالي نزرع له الوردة..
***
تركت الغسيل يبكي وحده وألبست صغيرتي ملابسها وحملت غطاء رأسي ونبتة ورد رعيتها طويلاً لأجله وقطفت صغيرتي زهرتين جميلتين بالكاد تفتحتا، ومشينا عبر الجبل حتى وصلنا إلى قبره، قرأتُ ما فيه شفاء لقلبي، وبدأتُ أزرع النبتة، ثم وقفتُ أتأمله، كانت صغيرتي قد وضعت الزهرتين فوق صدره ووقفت تبتسم له..
***
وعدنا والريح الغاضبة تضرب كل شيء فوق الأرض.. بعد ثلاثة أيام جاء أول عيد لا يكون فيه أول من يزورني فركضت نحوه.. كان الطريق مظلماً أو يكاد، وعنده وجدت الريح قد ضربت كل شيء إلا الزهرتين فما زالتا مبتسمتين فوق صدره كأن صغيرتي وضعتهما للتو.. فبكيت أنا والريح وازداد شوقي إليه.
مخيم الجلزون
24-01-2005م
واقرأ أيضًا:
كائنات خالية من الضوء / اشرب واحمد الله / القضية / من ملفات المهجر / ذكريات ومشاهد من الحرب / الشيخ عبيد / قالت: هو الوداع