جلست في مقعدها بالطائرة بعد أن وضعت حقيبتها الصغيرة بالرف العلوي.. اختارت مقعدًا بجوار النافذة لتستمتع برؤية مشهد العالم من فوق كعادتها كلما سافرت.. ربطت حزام الأمان قبل أن يطلب منها هذا وبدأت في مضغ علكة حتى لا يتعب الضغط أذنيها عند الانطلاقة الأولى للطائرة.. كانت تحب الاستعداد المبكر للأشياء.. ربما هي عادة قديمة اكتسبتها منذ الصغر.. بدأت تردد أذكار السفر.. ثم بعد أن أنهت كل استعداداتها بدأت في قراءة الكتاب الذي أحضرته معها ليكون جليسها في الرحلة.. ولكن فجأة وقعت شنطة صغيرة على قدمها شتتت انتباها وكادت تثير ضيقها لولا أنها لاحظت أنها للراكب الذي يجلس في المقعد المقابل لها وأنها سقطت على غير إرادة منه وهذا من فرط ارتباكه حيث كان متأخرًا كما يبدو عليه.. اعتذر لها في أدب فهزت رأسها دون أن تطيل النظر في وجهه وقالت له في صوت خافت وهى تعاود النظر في الكتاب: لا بأس..
جلس أمامها في مقعده وابتدئوا يسمعون التنبيهات الخاصة بالإقلاع وبدأ هو في ربط حزام الأمان بعد أن هدأ واستراح أن الطائرة لم تفته وبدأت الطائرة في الإقلاع فأخذت منى تمضغ العلكة بقوة أكبر لكي لا تتعب أذنيها فلقد كانت هذه هي مشكلتها الأساسية كلما سافرت ألم الأذن القاتل الذي يصاحبها في الإقلاع والهبوط..
وانطلقت الطائرة بسلام ولم تتألم أذنيها إلا بقدر بسيط كانت لها القدرة بفضل الله على احتماله فأخرجت العلكة وعاودت قراءة الكتاب
- (رحلة حول العالم في ثمانين يوم) لجولز فيرن.. أصبت الاختيار يا سيدتي إنه من أفضل الكتب في أدب الرحلات
تعجبت منى من هذا ولكنها ابتسمت في رقة وهى تنظر إليه وهمت بأن تعيد نظرها للكتاب مرة أخرى لولا أنها لاحظت أن ملامح الجالس أمامها مألوفة.. نعم مألوفة.. إلى حد كبير
كبير جدًا وصوته أيضًا
- مصطفى؟؟؟؟؟
دقق مصطفى النظر في ملامحها وهتف قائلاً:
- من منى؟؟؟؟ هل يعقل هذا ؟؟؟؟ بعد عشرين عامًا؟؟؟
- أنا لا أصدق نفسي تغير شكلك كثيرًا عما كنت عليه سابقًا
- نعم زاد وزني بشكل ملحوظ, ثم ابتسم مكملاً: أما أنت فلازلت كما أنت بل ازددت جمالاً
ابتسمت في خجل وقالت في رقة: ألهذا لم تعرفني منذ الوهلة الأولى؟
فضحك قائلاً: لا ليس لهذا ولكن لأن الكتاب كان يخفي أغلب تفاصيل وجهك
ثم أردف: لازلت تحبين القراءة؟ أليس كذلك؟
- بالتأكيد وهذا خير دليل "مشيرة إلى الكتاب"
- هل تزوجت؟
- نعم ومات زوجي من خمسة أعوام
- في حادث؟؟؟
-لا بل مات بعد صراع مع السرطان
-"إنا لله وإنا إليه راجعون"
مسحت دمعة ترقرقت من عينيها وهى تقول: ونعم بالله, ثم أردفت قائلة: وأنت؟
- نعم تزوجت ولكننا انفصلنا بعد ثلاثة أعوام من الزواج.... لم نتفق كثيرًا.... ومن يومها لم أكررها ثانية
- مع من تسكن إذن؟؟
- مع ابن أخي فقد مات أخي منذ فترة وتزوجت زوجته من رجل آخر فصار وحيدًا فأخذته ليحيا معي ولقد كان نعمة من الله منَّ بها علىّ،.. وأنت مع من تعيشين؟
- وحيدة، فابنتي في أمريكا تدرس وأنا أسافر لها كل عام كما ترى
- ولكن لماذا لا تعيشين معها هناك؟
-لا أستطيع أن أترك عملي في الصحافة كما أنني لم أشفى بعد من حبي لمصر
فضحك وقال: ألازلت لا تستطيعين البعد عنها؟
فابتسمت وهي تقول: ألا تذكر كلمات صلاح جاهين عن حب مصر حين وصفه قائلاً "عشق زي الداء"
- نعم نعم لازلت أذكر
- وأنت ألازلت تعمل بالطب؟
- أكيد لقد صرت جراحًا معروفًا
- لطالما كنت موهوبًا منذ دراستك في السنوات الأولى
- شكرًا للمجاملة
- إنها حقيقة
سكتا برهة ثم بادر مصطفى بالسؤال: أتذكرين أول لقاء بيننا؟
احمرّ وجه منى.. لم تكن تحب أن يتطرق الكلام إلى هذا الموضوع بالذات.. لاحظ مصطفى خجلها فهمّ بالسكوت ولكنه لم يستطع وأكمل قائلاً: لم أحب بعدك
أشاحت منى بوجهها وأخذت تتطلع للمشهد من خلال النافذة
ولكنه أكمل: هل تمانعين في الزواج منى؟
ذهلت منى من السؤال المفاجيء ورفعت حاجبيها غير مصدقة فأردف: لم لا؟؟.... لقد مات زوجك وتعيشين وحيدة وأنا كذلك وحيد... لما لا نتزوج ونحقق الحلم الذي حلمناه سويًا من عشرين عامًا؟ لا أعتقد أن ابنتك ستمانع أما ابن أخي فهو يتمنى لي هذا من سنين
لم تعرف منى بماذا تجيب ولكن يبدو أن كلامه أحيا فيها مشاعر الأنثى من جديد ولكنها حاولت ألا يبدو هذا واضحًا عليها وقالت له: هل رتبت كل شيء هكذا في دقيقتين؟
فقال لها: لقد فات الكثير, لما لا نسرع ولو مرة واحدة في حياتنا؟ ما رأيك؟
أجابت: دعني أفكر
قال: إذن أعطيني عنوانك ورقم هاتفك في أمريكا.. خذي رأي ابنتك وسأهاتفك بعد يومين لأطمئن
- بهذه السرعة؟
- نعم فأنا أيضًا لم أشفى من حبك بعد..
- أنا لا أعدك بشيء قلت لك سأفكر
- أعلم.. أعلم ولكن أعطني العنوان والهاتف... هيا
أملته ما طلب وابتسمت في داخلها فهي بالفعل في حاجة إلى زوج يملأ عليها وحدتها وهل هناك زوج يناسبها مثل مصطفى.. حبها الأول.. يا لها من رحمة.. لله الحمد أن التقينا بعد كل هذا العمر
دار كل هذا بذهن منى ولكنها تظاهرت كأنها ليست موافقة وأنها بحاجة للتفكير ولكنه كان يعلم معنى هذه النظرة منها فابتسم بدوره وراحا يستعيدان ذكريات الصبا ..
واقرأ أيضاً:
عشرون عاماً ... مضتْ / إني ألف أكرهك.. / ونفترق.. / إليك يامن كنت يومًا حبيبي.. / آه لو يصمتون / صوت الباب / دم الشهيد.. / جزارة على النت / الجمال