.. قالت لها أُمّها:
-((..غدًا سنذهب إلى البحر..))-
اكتساها فرح غامر..
قفزت مثل أرنب مرح تناديه أعشاب بريّة،،
وثبت في الهواء، كادت تلامس السقف بأناملها الطريّة..
كم تعشق البحر، تتوق نفسها إلى مياهه الزرقاء، حبات رماله..
أيّ حلم جميل أخّاذ سيحتويها هذا المساء؟!
قبل أن تغرب الشمس..
مضت جذلى إلى صديقاتها الصغيرات..
أخبرتهن بدلال، وزهو أنها ذاهبة إلى البحر..
برقت أعينهن حسدًا، وفضولاً ..
قالت إحداهن ضاحكة:
-(( اجلبي لنا بعض الصدف الملوّن))!
عبثت الثانية بشعرها، ووشوشت بخجل:
((أحضري معك حبات رمل!))
همست الأُخرى:
((اغرفي لنا قليلاً من ماء البحر..))
تضاحكن في آن واحد..
انطلقن راكضات قبل انطفاء آخر بقعة ضوء من شمس نهار يتقلّص قرصها في الأفق..
قبل أن تنام..
مازحت أمّها، و أباها، وقطتها الرمادية، جمعت كل أشيائها.. المشط الملوّن، حقيبة اليد المزركشة، مشابك الشعر، دميتها الوردية، مرآتها الصغيرة المستديرة ذات الإطار الأزرق..
نامت على ضفاف ابتسامة،،
كان حلمها بحرًا أزرق متسع المدى..
و سماء زرقاء صافية تذرعها طيور بيض الأجنحة..
في الصباح، كانت هي أول من أشرقت الشمس فى سماء عينيها الصافيتين..
حملت حقيبتها على ظهرها..
قفزت إلى الكرسي الخلفي..
أغمضت عينيها مختصرة المسافة إلى البحر، غائبة عن هدير محرك السيارة، و ضجيج شوارع المدينة الصاخبة..
وعندما فتحت عينيها طالعها البحر بشاطيء رملي لا نهاية له
و أمواج خفيفة تداعب أطرافه..
داعبتها أفراح مختبئة..
أنزلت أشياءها..
اندفعت نحو البحر، ألقت بجسدها بين أمواجه..
استسلمت لبرودة الماء..
ورويدًا، رويدًا، ابتعد عنها الشاطيء، والسيارة، وأمها، وأبوها، والمدينة الكبيرة..
جرّبت أن تفتح عينيها المتألقتين تحت الماء..
تـحّرك شفتيها الصغيرتين، تدعو الأسماك لتلعب معها..
مدّت أصابعها تمسّد أعشاب البحر اللزجة..
غابت في جوفه سمكة..
مضت تلهو مع الأسماك الصغيرة، تسبح وراء حوريات البحر المسحورات. حدثتهن عن صديقاتها المغرمات بأكل الحــلوى..
اشتكت إليهن من مادة الحساب، واللغة العربية، والمدرّسات القاسيات صارمات الوجوه، وعقاب التأخير عن طابور الصباح حدثتهن بامتعاض عن طوابير السيارات المسرعة عند المفترق المقابل للمدرسة..
تكلّمت كثيرًا، وبحزن عن الصبيان الأشرار الذين يعبثون بشعرها، يحلّون ضفائرها، ويسرقون مشابكها، وإفطارها الصباحي!
أخبرتهن عن الغبار، والأدخنة التي تجعلها تسعل..
حدثتهن أيضًا عن شظايا الزجاج المبعثر على الطرقات، وأحذيتها التي تتمزق دائمًا، وقدميها اللتين تدميان..
ذكرت لهن تأنيب الكبار لها، وأعينهم التي تصير مخيفة تتطاير شررًا كلما أخطأت دون قصد..
روت لهن بخوف كلّ ما قيل لها عن العفاريت، والقطط المتوحشة والكلاب الشرسة التي يخيفونها بها إذا رفضت أن تنام!!
سردت على مسامعهن كلّ الأشياء المؤلمة التي صادفتها..
فبكين من أجلها تحت الماء!
اعتذرت لهن لأنها نسيت دميتها الوردية، ومشابك شعرها، ومرآتها الصغيرة، وحقيبتها الزاهية على الشاطيء..
تقبلّن عذرها بابتسامات خافية تحت البحر..
..........
خلال الأيام التي تلت غياب الطفلة في البحر، لاحظ الناس المرتادون الشاطيء أن لمعانًا ينعكس مع انكسارات أشعة الشمس على الماء.. يطفو على هيئة بقع ضوئية متناثرة كلما تدحرجت موجة، ويتلألأ على السطح بين الحين والآخر بلون فضّي يشبه بياض، وائتلاق عيني طفلة تبتسم لهم من بعيد.. وسط البحر!!
محمد المسلاتي ، ليبيا
___
* سامية طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها، خطفها البحر في صيف عام 1994 فـ إليها هذه القصة ..
واقرأ أيضا:
آخر الباقين!! / كائنات خالية من الضوء / اغفاءة فإفاقة / لزوم ما لا يحُكى... ما دام الأمرُ كذلك!