في تمام الثانية فجرًا، أيقظه البرد بأصابعه التي مسدت عنقه بنعومة أمست لئيمة لتكرارها في كل ليلة. فتح عينيه عن آخرهما وتأمل السقف الكالح ببؤس مضاعف جراء الظلام الرمادي. تأمل حياته وسط لُجج الظلام -الذي بدا له كضباب متجمد لذكرى بشعة- فقد شارفت آثار خطوات الزمن بالتلاشي من فوق رمال طفولته الجافة، تلك الطفولة المُتعثرة بصخور العُزلة التي كانت تُدمي باطن قدميه البضتين.
اليوم، لم تعد هناك صخور رجيمة مبعثرة تخدش خطواته، بل صخرة واحدة ابتلعته داخلها بحكم قضى منه ست سنوات وبقيت عشر ليتمه كاملاً. أخرج كفيه من تحت الملاءة المتجمدة وتأمل أصابعه التي علقها فوق عينيه، وبلحظة ما، تحركت تلك الأصابع رغم قيود البرد لتستبعث ذكرى مقطوعة حزينة لأوتار البيانو الذي تهادت ألحانه بوداعة من بين سهوب المُخيلة. هناك، حيث ظلام المساء المسيطر على النخيل وحيث بيت السَعف الذي قضى آلاف الأمسيات يقرأ بداخله. كانت الظُلمة ممتعة بأمسيات الماضي، وكان لُهاث غابات النخيل الفراتية الساكن يثير فيه خواطر عن هذه الأرض العجيبة، بل ويتركه الصمت بحالات ماورائية توهمه بالإصغاء لوقع الحوافر وصلصلة سيوف أجداده قبل قرون سحيقة. اليوم أمست الظلمة خفاشًا يمتص دماءه، وصارت أحلام الفجر البارد بين النخيل تلاحقه كملاحقة قلبه لذكرى امرأة. تابع العزف بقلب ينتشي بالألم ومساميره الدقيقة الساخنة، وهناك من خلف أشجار الياسمين الدمشقية الغارقة بندى الرابعة فجرًا، أطلت بشعرها الداكن وأنفها الهندسي المُصدعة جوانبه كماسة. أطلت كأميرة صمت لذيذ قد ضاعفت مشيتها العربية من لذته، لم يدر متى امتدت أنامله إلى خُصلة الشعر الدافئة فوق خدها الناري لتداعبها، لكنه أزاحها بمشقة وهو يتمتم جملة انكساره خلف القضبان: لست جديرًا بامرأة.
أعاد جملته بصوت عكر من شاعرية الزنزانة الغاصة بظُلمات الكراهية، ثم أعاد جملته بصرخة مجنونة وراح يضحك بهستريا دفعته لتدمير كل كتبه المُتجمدة على الأرض. ابتعد عن مجزرة الأوراق المتناثرة هنا وهناك، وراح يدور بالزنزانة كمن يعاني من حرقصات عقرب بأحشائه. ضرب رأسه بالجدار مرة، مرتين، ثم لكمه حتى تلظى ببريق الألم الصادر عن تهشم العظام المتجمدة والمنخورة مرضًا. كل شيء يذكره بالعزلة الكريهة، ولذا فقد قرر ببساطة أن ينتقم من كل شيء. هجم على سريره الضيق، المنزوع المخدة منذ سنين، وقلبه مصدرًا صرخات امتزجت بصلصلة الباب الذي فتحه الحارس الهائج باستياء جنوني، والذي لم يحظ بأي فرصة ليصرخ به ناهرًا، إذ هجم على تلابيبه وهو يضحك من جديد، لظنه بأنه سيدمر رمز الكراهية الأول. الفناء مفاجأة متوقعة بالعالم السخمي هذا، بل هي مسألة وقت ربما، هكذا، شعر بتفتق الجحيم بأحشائه بعد رصاصتين صائبتين اخترقتا بطنه. أرجع الحارس مسدسه بحركة واثقة، لفظ كلماته وسط لُهاث المواجهة: إسلامي حقير.
تركه ممدًا على أرضية الزنزانة الرُخامية ومضى ليشرب اليانسون المحلى بالسكر. أما هو، فقد بقي محتفظًا بالحنق متجمدًا بعينيه، في الوقت الذي ضغطت أصابعه الباردة على فتوق بطنه النازف. امتلأت عيناه بالدموع ثم سالت على جانبي صدغيه بهدوء، لم تأت أميرة الصمت لمسحهما إذًا وعليه أن يبقى وحيدًا ليموت بزنزانة مجهولة وباردة في تمام الساعة الثانية فجرًا وعشر دقائق من يوم لا يعرفه. دمعت عيناه مرة أخرى، ليتها هنا لتضع رأسه بحجرها وتلمس دموعه الرجولية الساخنة. ليت الموت يتركه ليهمس لها كم أحبها وكم آذاها وكم ظلمها وكم ساهم بكرهها له، وليقل لها أيضًا أن تضمه لحضنها كأم ليبكي على صدرها كأيام بعيدة جدًا. لا، لن يحدث شيء من هذا وسيموت هنا، الآن، وبهذه الدقائق بالضبط، دون حضنها أو حضن أي امرأة. هكذا سيرحل وسط حفلة من الكراهية التي استقبلته بها هذه الزنزانة، وكل من عرفهم بهذه الحياة التي بدأ يحن إليها بآخر لحظاته. ليته يعيش معتزلاً العالم مرة أخرى، وليت الكراهية تدفعه لمصير أفضل من هذا. انتحب بصوت مسموع فردت الكراهية عليه بصمت مقبرة، وهنا ودع الحياة التي طالما كرهها والتي سيشتاق لكراهيتها له أيضًا. فرغم كل شيء، كانت بالحياة أرض تسمى العراق وامرأة رائعة خفق قلبه لأجلها.
واقرأ أيضا:
مازلتُ أذكركِ.. / مذكرات العراقي الشريد: أنا وليلى / كفرتُ / إلى من تعلم... / الثاني من ماي.. عيد ميلادها / عندما تتحطم الأحلام / تتهاوى أوراقي